في مدينة غزة، انتشر الذعر في 15 دقيقة، ألقت العائلات حقائبها وبطانياتها من الشرفات، وتمسك الأطفال بألعابهم، وأطلق الجيران تحذيرات مع اقتراب الطائرات الحربية الإسرائيلية، وقال السكان إنهم لم يمنحوا سوى 20 دقيقة لمغادرة منازلهم قبل بدء الغارات.
هذا المشهد الذي رصدته صحيفة" هآرتس" العبرية، في مدينة غزة، حيث تهافت النازحون تحت قصف إسرائيلي لا ينقطع، قبل اجتياح بري وشيك، ليس فقط على المأوى، بل أيضًا على معرفة ما يجب أخذه من حياة انحصرت فجأة فيما يمكن انتزاعه في لحظات.
ونقلت الصحيفة عن أحد السكان: "لا نعرف حتى ما نحزمه خلال 15 دقيقة".
وأشارت إلى أن هذا النوع من الإخلاء المتسرع والمتكرر أصبح أمرًا مألوفًا، فمنذ شهر مارس وحده، سجلت الأمم المتحدة أكثر من 856,000 حركة نزوح في أنحاء غزة - وقد أحصي العديد من الأفراد أكثر من مرة، بعد أن نزحوا عدة مرات.
ووفقًا لتقرير الأمم المتحدة، فقد نزح ما يصل إلى 1.9 مليون شخص، أي أكثر من 90% من سكان غزة، مرة واحدة على الأقل.
في أواخر أغسطس الماضي، طالب المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي باللغة العربية جميع سكان مدينة غزة، البالغ عددهم 1.2 مليون نسمة، على الانتقال إلى ما يسمى "مناطق آمنة" جنوب القطاع، وقد غادر المدينة منذ ذلك الحين ما يقدر بـ100 ألف شخص.
وتلقت بعض أحياء مدينة غزة أوامر إخلاء رسمية، عبر منشورات ألقاها جيش الاحتلال من أو عبر مكالمات هاتفية.
ولم يتلق أسامة عبد الهادي (27 عامًا) أمر إخلاء رسمي منذ بدء عمليات الجيش الإسرائيلي في مدينة غزة، رغم أنه سبق أن فر من منزله في حي الشيخ رضوان عدة مرات.
كان "عبد الهادي" تمكن من العودة سابقًا، لكنه يعيش الآن في مخيم الشاطئ للاجئين على الطرف الغربي للمدينة، في منزل جدته. وهو المكان الذي هجرته هي نفسها قبل أشهر عندما انتقلت إلى المواصي، التي صنّف الجيش الإسرائيلي أجزاءا منها "منطقة إنسانية".
مدينة أشباح
لم يكن ما دفع عبد الهادي للمغادرة غارة جوية واحدة، بل استمرار تحليق الطائرات المسيّرة فوق حيه، ويتذكر أنه بحلول المساء، كانت الشيخ رضوان أشبه بـ"مدينة أشباح"، إذ اختبأ الناس خوفًا من الهجمات. ويقول إن الاحتلال استخدم هذه الطائرات للهجوم والترهيب.
وتؤكد "هآرتس" أن جيش الاحتلال يستهدف سيارات الإسعاف عند استجابتها للحالات، ويرهب أفراد الدفاع المدني عند محاولتهم إخماد حريق، مثل سيارة الإسعاف التي احترقت بعد غارة جوية الأسبوع الماضي.
وتقول الصحيفة إنه أثناء عمل أفراد الدفاع المدني، كانت طائرات مسيّرة تحلق فوق رؤوسهم لتخويفهم. ونقلت الصحيفة عن عبد الهادي: " كان أفراد الدفاع المدني يركضون، وعندما غادرت الطائرات المسيّرة، كنا نستدعيهم من نوافذ منازلنا. ولكن فور عودتهم، تعود الطائرات المسيّرة. كان الجيش الإسرائيلي يلعبون بها، ويستخدمونها للتسلية".
المسافة من الشيخ رضوان إلى الشاطئ أقل من ميلين، لكن الطريق بدا بلا نهاية. "الشوارع الآن رملية، لم تعد شوارع حقيقية. الأنقاض في كل مكان".
بعد أيام قليلة من انتقاله، أصيب عبد الهادي في حيه الجديد.. "كنت على سطح المنزل أملأ الخزان بالماء عندما أطلقت طائرة مسيّرة النار من مكان قريب. فزعني صوتها، فسقطت. انكسر كتفي، وارتطم رأسي بالخرسانة".
يتذكر كيف كان شعور النزوح في بداية الحرب مختلفًا عما هو عليه الآن، قال: "في الأيام الأولى، عندما كنت ترغب في المغادرة، كان بإمكانك الاتصال بأهل الجنوب - ألف شخص. تطلب مكانًا، أو غرفة، أو حتى قطعة أرض، فتجد ألفي شخص مستعدين لمساعدتك، واستضافتك، وتقديم ما في وسعهم. كان الناس لا يزالون يملكون شيئًا ما آنذاك، ولم يرفضوا طلبك. لكن الآن، إذا اتصلت، لا أحد يجيب. ليس لأنهم لا يريدون المساعدة، لا، بل لأن هذه الحرب سحقت الناس".
يقول عبد الهادي، إن "الحرب غيّرت كل شيء وقلبت حياتهم رأسًا على عقب. من كان يلجأ إليك يومًا ما، أصبح الآن بلا مأوى ولا حتى خيمة. هذه الحرب أشبه بيوم القيامة - الناس متعبون، يخجلون من عدم قدرتهم على مساعدتك، لأنه لم يبق لهم شيء".
ويضيف عبد الهادي: "بعض من هاجروا جنوبًا عادوا بالفعل - لم يعد هناك مكان لأحد. أرخص شقة سعرها 1000 دولار، دون احتساب الرسوم"، أي أكثر من ضعف سعرها قبل الحرب.. "من أين لنا بهذا المبلغ؟".
النازحون لا يجدون مأوي
بالنسبة لـ إيناس، وهي أم لثلاثة أطفال تبلغ من العمر 32 عامًا، بدأ التحدي حتى قبل مغادرتها. عندما صدر أمر الإخلاء، لم تكن تدري من أين تبدأ.
اتجهت إيناس جنوبًا مع زوجها وبناتها، وقالت: "ظننا أننا سنجد مكانًا يرحّب بنا، لكننا خاب أملنا. من وجد مكانًا في الجنوب، فهذا خير له. أما نحن؟ حتى الشوارع لا تستقبلنا في هذه المرحلة. معظم الناس لا يملكون مأوى ولا خيمة ولا مكانًا آخر. كثيرون منا يفضّلون الموت على خوض المزيد من جولات النزوح. لا نملك المال، ولا الكهرباء ولا الطاقة اللازمة للنزوح".
توضح "إيناس" أن المال لا يضمن الأمان. وتقول: "ستحتاج إلى نحو 2000 دولار لكل نزوح"، موضحة التكاليف: "400 دولار للنقل، و400 دولار لصيانة قطعة أرض ستنصب فيها خيمتك، و300 دولار أخرى لمواد البناء. ثم هناك نفقات إضافية للماء والطعام، وحتى الوصول إلى الحمام. حتى من يملك المال لا يستطيع دائما تدبير أموره".
وعندما تستقر العائلات أخيرًا، كما تقول إيناس، فإن الأمر لا يدوم طويلًا.. "في اللحظة التي تستقر فيها وتبدأ بالتعود على الحياة التي بنيتها، تربكك حلقة أخرى من النزوح. ستكون الغارات الجوية والموت في كل مكان".
تعيش عائلة إيناس الآن في بلدة الزوايدة شمال غزة، قرب دير البلح، لكن حالة عدم اليقين لم تهدأ. وقالت "لا ندري هل ننتقل جنوبًا أم نعود إلى الشمال. عائلتي، التي فرّت بالفعل إلى الجنوب، تقسم أنها لم تنم منذ أسبوع بسبب الغارات الجوية والقصف. لا ندري ماذا نفعل".
اعتادت صابرين، البالغة من العمر 24 عامًا، على سرعة حزم أمتعتها. عندما هربت عائلتها إلى مخيم النصيرات للاجئين، لم تأخذ معها سوى عدد قليل من أغطية الرأس. ومنذ ذلك الحين، أمضت ساعات على الإنترنت تبحث عن مأوى.
من الموت للموت
تقول صابرين: "نشرت عدة مرات على مجموعات فيسبوك بحثا عن مأوى لنا نحن الخمسة في خان يونس أو رفح جنوبًا، لكن نادرًا ما نجد شيئا. وإن وجدت، فالأمر مكلف للغاية. بعض الناس يطلبون آلاف الدولارات مقابل منازل حتى في المناطق الحمراء"، في إشارة إلى مناطق القتال التي حددها الجيش الإسرائيلي.. "من سيذهب إلى هناك؟ هربًا من الموت إلى الموت؟".
نزحت "صابرين" وعائلتها أربع مرات منذ أن انتهكت إسرائيل وقف إطلاق النار في مارس الماضي. وقالت "كنت متأكدة من أن الحرب ستعود، لكنني لم أتوقع أن نضطر للفرار مجددا في اليوم الأول لاندلاعها. وهذا ما حدث. هربنا من منزلنا دون أي أمتعة. في ذلك الوقت، استأجرنا شقة في خان يونس لمدة شهرين. ثم جاء إخلاء خان يونس".
أضافت: "عدنا إلى دير البلح وأقمنا هناك أقل من شهرين، حتى صدر أمر الإخلاء هناك أيضًا. لم يكن لدينا مكان آخر نذهب إليه، فأقمنا أسبوعًا لدى أقارب بعيدين في النصيرات. بعد ذلك، عدنا إلى غزة وأقمنا فيما تبقى من شقة عمي".
الآن، يطلب من عائلتها مجددًا الرحيل، وقالت: "يطلب منا أن نبدأ من جديد، أن نبحث عن مأوى، وأن ندفع تكاليف المواصلات، وأن نتحمل العبء. لكن في الواقع، لم يتبق لدينا مال، ولا مكان نذهب إليه، ولا شيء على الإطلاق. لماذا كل هذا؟ ولمن؟ ما يحدث هو كفر بكل معنى الكلمة".