في طرق غزة المدمرة، حيث تختلط رائحة البارود بصرخات الجياع، يخوض عشرات من سائقي الشاحنات الفلسطينيين صراعًا يوميًا مع الموت لإيصال المساعدات الإنسانية إلى 1.2 مليون شخص محاصر، بعد أن كانت رحلة تستغرق ساعات قليلة، تحولت إلى مغامرة محفوفة بالمخاطر قد تمتد لأيام، وسط حصار خانق ونيران لا تتوقف.
الرحمة أصبحت جريمة
عندما يروي "مازن" ما شاهده على طرق غزة المدمرة، تظهر في عينيه ذكريات مؤلمة، إذ إن هذا السائق الخمسيني الذي قضى أكثر من عقد في النقل التجاري قبل الحرب، يجد نفسه اليوم شاهدًا على مآسٍ لا توصف، كما تنقل صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية.
يحكي "مازن" كيف تظهر الجماهير من بين الدبابات والمباني المدمرة، لتلتف حول قافلة المساعدات التابعة للأمم المتحدة التي يقودها.
يتذكر "مازن" كيف بدأوا في تفريغ الإمدادات، متسلقين شاحنته حتى أصبح بعضهم قريبًا جدًا منه لدرجة أنه استطاع رؤية وجوههم من النافذة.
ويقول واصفًا المشهد: "الجوع يسيطر عليهم تمامًا، يجعلهم ينسون الجنود وخطر المنطقة الحمراء، فيغمرهم الانفعال".
وسرعان ما تذكّر هؤلاء أصوات الرصاص بالواقع المرير، حيث تبدأ النيران في الانهمار من مواقع القناصة والدبابات، حاصدة أرواح بعض المتجمهرين، ووسط هذا الجحيم، على مازن مواصلة رحلته مجبرًا، ملتزمًا بالتعليمات العسكرية الصارمة التي تمنعه من التوقف.
تشير بيانات الأمم المتحدة الواردة إلى استشهاد أكثر من 2100 فلسطيني أثناء البحث عن المساعدات منذ أواخر مايو الماضي، معظمهم بنيران إسرائيلية، في حين استشهد 1011 آخرين على طول طرق القوافل بين أواخر مايو الماضي وأوائل سبتمبر.
وفي مواقع مؤسسة غزة الإنسانية الممولة أمريكيًا، استُشهد 1135 شخصًا خلال الفترة ذاتها.
رحلة الألف ميل
فور الحصول على موافقة جيش الاحتلال الإسرائيلي، تتحرك القوافل التي قد تضم أكثر من 50 شاحنة نحو معبر كرم أبو سالم على طرق محددة عسكريًا، وغالبًا ما تتوقف لساعات في نقاط تفتيش إسرائيلية.
ومع بزوغ الفجر، ينطلق "مازن" من خيمته المكتظة في شريط المواصي الساحلي جنوبي لقطاع غزة للقاء قافلته، وأحيانًا يحل الليل قبل السماح لهم بالمغادرة، فيغلي "مازن" الشاي على نار صغيرة مع السائقين الآخرين، ثم ينام تحت شاحنته على أمل أن تساعده نسمات الصحراء على النوم.
يصف عمر، تاجر الجملة الذي تحول لسائق شاحنة خلال الحرب، تعبيرات وجوه الناس المتجمعين حول الشاحنات بأنها تشبه "السعادة في عيون أطفاله" عندما يعود بكيس دقيق من المهمة، مؤكدًا أن ما يحدث ليس سرقة بل "توزيع ذاتي" من أشخاص "لم يحصلوا على طعام كافٍ لشهور".
متاهة بيروقراطية
تؤكد أولجا تشيريفكو من مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في غزة أن الرحلة التي يجب أن تستغرق خمس ساعات بما في ذلك تحميل البضائع، تمتد الآن من 12 إلى أكثر من 24 ساعة.
وتشير لـ"فاينانشال تايمز" إلى أن نحو 120 شاحنة مساعدات إنسانية دخلت يوميًا في أغسطس الماضي، مقارنة بنحو 600 شاحنة خلال الهدنة قصيرة المدى بين يناير ومارس الماضيين.
تقول تشيريفكو: "خلال وقف إطلاق النار، كنا قادرين على تشغيل عدة قوافل يوميًا، وهذا أمر مستحيل تمامًا الآن"، مضيفة أن ثلث طلبات الموافقات استغرقت أكثر من شهر، مع قصر التسليم على معبرين فقط.
لصوص مسلحون
إلى جانب نيران القناصة، يواجه السائقون تهديد اللصوص المسلحين الذين يطلقون النار على الإطارات ويسرقون البنزين والبطاريات، وأحيانًا شاحنات كاملة.
يروي "عمر" كيف أوقفته ثلاث سيارات جيب أثناء انتظاره في نقطة تفتيش إسرائيلية مع قافلة برنامج الأغذية العالمي في يوليو: "سألني عن نوع الشاحنة، أوتوماتيك أم عادي؟ قلت له أوتوماتيك، فطلب مني تشغيلها. وضعت الرمز وأدرت السيارة، ثم صعد أحد سائقيه وقاد الشاحنة بعيدًا".
صناعة النقل تنهار
تكشف الصحيفة البريطانية أن أقل من خُمس الشاحنات تصل إلى وجهتها في غزة هذا الصيف، بينما يتم اعتراض الباقي إما بطريقة سلمية من قبل الجماهير الجائعة أو بالقوة من قبل جهات مسلحة، وفقًا للأمم المتحدة.
ويؤكد مسؤول في جمعية صناعة النقل أن أكثر من ثلث الشاحنات البالغ عددها 1200 شاحنة التي كانت تعمل في غزة لا تزال صالحة للعمل، بينما "احترق الباقي أو دُمر أو أخذنا إطاراته لإصلاح شاحنات أخرى".
وبسبب منع إدخال مواد جديدة، ارتفع سعر الإطار الواحد من نحو 300 دولار إلى 5000 دولار، إن أمكن العثور عليه أصلًا، بحسب ما يشير مازن للصحيفة.
كما أن عشرات السائقين قُتلوا وجُرحوا بنيران إسرائيلية أو على يد لصوص مسلحين، وكثيرون آخرون اعتُقلوا أو رفضوا المجازفة.
عندما تصل قافلة مازن المتهالكة إلى وسط غزة، لا يتبقى غالبًا أي حمولة تقريبًا.
ويشير إلى أنه مع كل مهمة، تزداد الصعوبة: "الحشود تكبر، والمشكلات على الطريق تتفاقم، وهناك المزيد من اللصوص وإطلاق النار. لا يوجد ضمان أننا سنعود".