تقف فرنسا، ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، على حافة انهيار مالي مدمر قد يجر القارة العجوز بأكملها إلى أزمة ديون مشابهة لتلك التي هزّت منطقة اليورو قبل عقد ونصف العقد، بحسب ما تشير صحيفة "بوليتيكو".
وفي خضم هذه العاصفة المالية، يحارب رئيس الوزراء فرانسوا بايرو معركة أخيرة ضد قنبلة موقوتة ديموجرافية تهدد بتدمير مستقبل البلاد اقتصاديًا واجتماعيًا.
القنبلة الديموجرافية
تكشف صحيفة "بوليتيكو" حجم الكارثة الديموجرافية، إذ إن 19 مليون فرنسي تجاوزوا الستين من العمر، يشكلون أكثر من ربع السكان، ومن المتوقع أن ترتفع هذه النسبة إلى الثلث بحلول 2040.
هؤلاء المتقاعدون أو المقبلون على التقاعد يضغطون بقوة على الدين العام الذي تجاوز 3.3 تريليون يورو، بينما تبلغ فاتورة المعاشات السنوية 400 مليار يورو، أي ما يعادل 14% من الناتج المحلي الإجمالي.
وحذر ماكسيم سبايحي، الباحث السابق في معهد مونتين الاقتصادي، من خطر "الأكل الذاتي" حيث "نمول الحاضر والماضي على حساب المستقبل"، مؤكدًا أن "الفرنسيين غير مدركين للوضع الديموجرافي، يعتقدون أن فرنسا دولة شابة ويمكن التوقف عن العمل في سن الستين"، وهذا الجهل، بحسب سبايحي، يقود فرنسا نحو "تعديل وحشي ومؤلم" لنظامها الاجتماعي.
مواجهة سياسية حاسمة
يواجه بايرو، الذي خدم أقل من تسعة أشهر كثالث رئيس وزراء في عام واحد، تصويت ثقة حاسمًا في 8 سبتمبر، إذ تشير كل المؤشرات إلى سقوطه المحتم.
وكشفت "بوليتيكو" أن الحزب الاشتراكي، الذي كان بايرو يعتمد عليه كحليف، قد تخلى عنه بسبب إصراره على إصلاح المعاشات، وهي القضية التي انفجرت بعد رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عامًا.
يوجه بايرو، المولود عام 1951 وهو نفسه من جيل الطفرة السكانية، اتهامات صريحة لجيله، محذرًا من أن السكان في سن العمل يواجهون "العبودية" بسبب اضطرارهم لسداد "قروض تم أخذها بخفة من قبل الأجيال السابقة".
وعلق الصحفي رونان بلانشون من صحيفة "لو فيجارو" على خطاب بايرو قائلًا: "بالنسبة لنا جيل الألفية، خطاب بايرو حول جيل الطفرة السكانية سيكون بمثابة روبسبير في مؤتمر 8 ثيرميدور"، في إشارة إلى كيفية إرسال الزعيم الثوري الفرنسي إلى المقصلة بعد شجبه لمواطنيه.
أرقام تنذر بكارثة
تكشف البيانات المالية المنشورة في "بوليتيكو" خطورة الوضع، إذ إن العجز المالي وصل إلى 6.1% من الناتج المحلي الإجمالي في 2024، أي ضعف المعدل المسموح في قواعد الاتحاد الأوروبي البالغ 3%.
وتتوقع باريس ألا ينخفض العجز دون هذا المستوى حتى 2029، كما تشكل فاتورة المعاشات ربع إجمالي الإنفاق الحكومي، وتمثل أكثر من نصف الزيادة في الدين العام البالغة 839 مليار يورو بين 2018 و2023، بحسب المسؤول السابق في الخزانة جان باسكال بوفريه.
وأثار وزير الاقتصاد إيريك لومبارد ضجة كبيرة عندما اقترح أن الأوضاع قد تسوء لدرجة تتطلب تدخل صندوق النقد الدولي لإنقاذ البلاد، قبل أن يتراجع عن تصريحاته بعد ساعات قليلة عقب هبوط حاد في الأسواق المالية.
تحدٍ أوروبي
تشير "بوليتيكو" إلى أن فرنسا تتمتع بوضع ديموجرافي أفضل نسبيًا من جيرانها، بمعدل خصوبة 1.7 مولود لكل امرأة، مقارنة بـ1.1-1.2 في إيطاليا وإسبانيا.
ومع ذلك، يؤكد تيري بيش، المدير العام لمعهد "تيرا نوفا"، أن فرنسا تملك "أعلى مستوى معيشة للمتقاعدين مقارنة بالعاملين في العالم المتقدم".
محاولات الإصلاح تصطدم بجدار سياسي منيع، حيث إن المعاشات محمية بالقانون ولا يمكن تعديلها إلا بتشريع جديد، كما أوضح الاقتصادي هيبوليت دالبيس من كلية الأعمال ESSEC.
والأهم من ذلك، أن المتقاعدين يمثلون قوة انتخابية هائلة ويملكون الجزء الأكبر من ثروات البلاد، مما يجعل المساس بحقوقهم انتحارًا سياسيًا محققًا.
هذا التحدي الفرنسي، كما تخلص "بوليتيكو"، هو مجرد مقدمة لما ستواجهه أوروبا بأكملها، إذ إن شعوبًا تشيخ بسرعة، وعمالًا أقل يتحملون عبء عدد متزايد من المتقاعدين، في معادلة رياضية مستحيلة قد تحدد مصير القارة برمتها.