طوى رحيل الكاتب والروائي المصري الكبير صنع الله إبراهيم عن عالمنا صباح اليوم الأربعاء، فصلًا جديداً من فصول السرد العربي، إذ يعد أحد أبرز الأصوات الأدبية التي شكلت ملامح الرواية العربية منذ ستينيات القرن الماضي. واتخذ من الكلمة موقفًا ومن الرواية منبرًا للمواجهة وكشف الحقائق، بعيدًا عن القيود. وكان صنع الله إبراهيم كاتبًا استثنائيًا، يجمع بين حس المؤرخ وجرأة المقاتل، يكتب من قلب التجربة الإنسانية، متتبعًا تحولات المجتمع المصري والعربي بصدق ووعي نافذ.
ولد الكاتب الراحل من رحم النكسة، وصمد في زمن الهزائم، فكتب عن الإنسان العربي وطموحاته، واليوم ونحن نودعه، يظل إرثه شاهدًا على عصره، مؤرخًا للألم اليومي، وصاحب مشروع أدبي لا يموت. فقد ترك لنا إرثًا من الروايات التي تتقاطع فيها السياسة بالأدب، لا يطغى أحدهما على الآخر، ويكشفان معًا عن عمق التجربة المصرية والإنسانية.
مصدر إلهام
يتذكر الروائي إبراهيم عبد المجيد علاقته بالراحل قائلًا لموقع "القاهرة الإخبارية": "تعرفت على الراحل العظيم صنع الله إبراهيم في سن مبكرة، وكان بالنسبة لي أكثر من مجرد كاتب مشهور، كان أول من آمن بموهبتي الأدبية، وأول من احتضن بداياتي وشجعني بكل إخلاص وصبر. كان دعمه في تلك المرحلة الحاسمة من حياتي نقطة تحول، لا يمكن نسيانها، فقد ساعدني على تخطي كثير من العقبات التي تواجه كل روح شابة تبحث عن صوتها الخاص في عالم الأدب".
ورغم تأثر "عبد المجيد" بأسلوب الأديب الراحل وشجاعته الأدبية، إلا أن الأديب كان دائمًا ينصحه بخلق مساره الخاص والبحث عن هويته الفنية بعيدًا عن تقليده، إذ قال: "صنع الله إبراهيم لم يكن مجرد كاتب يكتب، بل كان معلمًا ومصدر إلهام، وصاحب فضل كبير علي وعلى أجيال عديدة تلته. عاش متواضعًا، مخلصًا لفعل الكتابة، بعيدًا عن أي ضجيج قد يشتت إبداعه".
وتابع: "قدم لنا روايات عظيمة ومميزة، تتفرد في تناولها لقضايا الإنسان العربي بصدق وجرأة لا مثيل لها، لا يستطيع أي كاتب آخر تقديم مثلها أو مساواتها. كانت كتاباته بمثابة مرآة صادقة تعكس وجع مجتمعه، وتجسد صراعات الإنسان، فتظل صوته الذي لا ينسى، وإرثه الذي سيظل حيًا في ذاكرة الأدب العربي مدى الحياة".
كسر القوالب النمطية
كان للكاتب الراحل صنع الله إبراهيم حضور وتأثير بالغ في فضاء الرواية العربية، وتميزت أعماله ببناء سردي محكم ودقيق، حسبما يؤكد الناقد المصري عصام زكريا، موضحا أن هذا الأمر لا نجده كثيرًا في كتابات العديد من الأدباء المعاصرين. لذا كانت رواياته ليست بالاستطالة المفرطة، بل اختار القصر المقتصد الذي يخدم جودة النص ويعزز قوة التعبير.
ويضيف: "لغة صنع الله إبراهيم قريبة من أسلوب الصحافة، بسيطة وواضحة، لكنها لم تفتقد للشجاعة والجرأة في تناول الأفكار والموضوعات التي كانت تعتبر في مجتمعاتنا من المحرمات أو المسكوت عنها. ويظهر ذلك بجلاء في روايته "اللجنة"، التي أحدثت صدمة قوية لدى القراء حين صدورها، بسبب صدق لغتها وصراحتها التي خالفت الذوق السائد آنذاك".
ووصف زكريا أعمال الأديب الراحل بانها تكسر القوالب النمطية وتتحدى المحظورات، إذ قدم نصوصًا جسورة لم يجرؤ الكثيرون على الاقتراب منها، قائلا: على الصعيد الشخصي، أعجب بروايته "نجمة أغسطس" التي أراها من أبرز إنتاجه، وبشكل عام، قدم راويات كثيرة مميزة جسدت مزيجًا من الجرأة والعمق في تناول القضايا المختلفة، ما جعله كاتبًا استثنائيًا، يجمع بين الجرأة الأدبية والصدق الفني.
الأصالة والتجديد
من جانبه، يقول أحمد بهي الدين رئيس الهيئة العامة للكتاب: "يعد صنع الله إبراهيم واحدًا من الأصوات التي اختارت أن تسير في دربها الخاص داخل المشهد الروائي المصري، تاركًا أثرًا لا يمحى في مسار السرد العربي منذ ستينيات القرن العشرين. ومع جيله من الكتاب الطامحين إلى تجديد البنية السردية، انطلق ليستلهم التحولات الاجتماعية والثقافية، ويعيد صياغتها في نصوص مشبعة بوعي المكان والزمان، ففي أعماله، يطل المكان حي نابض، لتمنح الرواية بعدًا بصريًا وحسيًا يرسخها في وجدان القارئ".
ويضيف: "ظل صنع الله إبراهيم، على امتداد مسيرته، وفيًّا لصوته الخاص، غير منجرف وراء تحولات الذوق السريع أو موجات الكتابة العابرة، فحافظ على خطه الفني المميز، وفي الوقت ذاته ظل حاضرًا داخل التيار الإبداعي الأوسع الذي أسهم في صياغة ملامح الرواية المصرية والعربية في النصف الثاني من القرن العشرين وما بعده. إن إرثه السردي اليوم يقف شاهدًا على قدرة الكاتب على الجمع بين الأصالة والتجديد، بين انتمائه لروح جيله وتمسكه بفرادة تجربته".