انطفأ اليوم مصباح ظل يشع في عتمة الحكاية، وغاب صوت كان يمشي بين السطور كما يمشي العارف بين ظلال المعنى، رحل صنع الله إبراهيم، تاركًا أوراقًا وحكايات لا يستطيع أن يطويها الزمن فستظل حكاياته التي صاغها بحب وإخلاص تعيش بين محبيه وتتناقلها الأجيال.
صنع الله إبراهيم ابن حي العباسية بمدينة القاهرة، الذي ولد 24 فبراير 1937، جاء إلى الدنيا وفي عينيه شغف مبكر بالمعرفة، أورثه إياه والده الذي أهداه الكتب قبل أن يهديه ألعاب الطفولة، كان الاسم نفسه - "صنع الله" - أول أبواب الحكاية، إذ أثار دهشة وسخرية الصغار، قبل أن يتحول إلى علامة يعتز بها حين علم أن خالته تحمل الاسم نفسه الذي أحبه كثيرًا.
ومنذ تلك البدايات، كان الوعي يتشكل في داخله مثل بئر عميق يغذيها أب قارئ ومحب للثقافة، رغم أن سنواتهما معًا لم تتجاوز 15 عامًا، لم يكن في طفولته يتخيل أن يصبح أديبًا، لكنه كان ينسخ روايات الجيب في كراسات، ويوقعها باسمه الصغير، وكأنه يضع البذرة التي ستنمو لاحقًا إلى مشروع أدبي كامل.
كان صنع الله إبراهيم يرى في التجربة الحياتية والسياسية مادة خام للكتابة، يقطف منها ما يراه صادقًا ومؤثرًا، دون أن يتفرع إلى الحارة المصرية كما فعل نجيب محفوظ، رغم أنه ابن حي العباسية، وعن هذا كان يقول: "كانت تشغلني التجارب الشخصية أكثر بكثير، وأحببت أن أقول للناس ما أشعر به".
في عام 1967، بدأ رحلته المهنية صحفيًا في وكالة أنباء الشرق الأوسط، وفي العام نفسه أطلق أول أعماله الأدبية "تلك الرائحة"، العمل الذي وصفه الدكتور يوسف إدريس بأنه ليس مجرد قصة، بل ثورة فنان على نفسه، وبداية لموهبة أصيلة، ولم يقف عند هذا الحد، بل عبر الحدود إلى برلين الشرقية عام 1968، ليعمل في وكالة الأنباء الألمانية، ثم إلى موسكو لدراسة التصوير السينمائي، وغمس روحه ثلاث سنوات أخرى في صناعة الأفلام، قبل أن يعود إلى القاهرة عام 1974، ويهب قلمه كليًا للكتابة منذ عام 1975.
ترك الراحل خلفه إرثًا واسعًا من الروايات التي شكلت وجدان القارئ العربي، من "إنسان السد العالي" و"نجمة أغسطس" و"اللجنة"، إلى "بيروت بيروت" و"ذات" و"شرف" و"وردة" و"أمريكانلي" و"التلصص" و"القانون الفرنسي" و"الجليد" و"برلين 69" و"رواية 1970"، فضلًا عن مجموعات قصصية مثل "الثعبان" و"أبيض وأزرق"، وأدب أطفال لم يفقد فيه عمق التجربة، مثل "رحلة السندباد الثامنة" و"الدلفين يأتي عند الغروب" و"اليرقات في دائرة مستمرة".
ونال صنع الله جوائز مرموقة، منها جائزة ابن رشد للفكر الحر عام 2004، وجائزة كفافيس للأدب عام 2017، لكن قيمته الحقيقية كانت فيما تركه من أثر، وفي الطريقة التي كتب بها، إذ جمع بين التوثيق الصارم، واللغة السهلة التي تخفي وراء بساطتها بحثًا عميقًا ومعرفة واسعة.
قال عنه الدكتور حسين حمودة، أستاذ الأدب العربي بجامعة القاهرة، إن تجربة صنع الله كانت شاهدًا إبداعيًا على فترات محددة في التاريخ المصري والعربي، تمزج بين الوقائع الكبرى والخيال، وبين الحس الإنساني العميق ورصد التحولات الاجتماعية والسياسية.
أما الروائي يوسف القعيد، فاعتبره أحد رواد التجديد في الرواية العربية بعد نجيب محفوظ ويوسف إدريس، ورجلًا لم يكتب إلا ما آمن به، حتى ترجمت أعماله إلى لغات العالم.
واليوم، وقد طوى آخر فصوله، سيبقى في ذاكرة الأدب العربي كاتبًا لا يشبه إلا نفسه، ونداءً صادقًا على صفحات التاريخ، يروي للأجيال أن الكلمة قادرة على أن تكون مرآة، وسلاحًا، ووصية.