تجد ألمانيا نفسها في معادلة صعبة ومعقدة، تاريخها المثقل بجرائم الهولوكوست جعلها منذ عقود من أكثر الدول الأوروبية التزامًا بدعم إسرائيل، إلى حد المقارنة بالولايات المتحدة في ثبات المواقف. لكن حرب غزة وما رافقها من مشاهد المجاعة وسوء التغذية قلبت المزاج العام في الداخل الألماني، ودفعت المستشار فريدريش ميرز إلى مواجهة ضغوط متزايدة لاتخاذ مواقف أكثر صرامة تجاه تل أبيب.
تراجع التعاطف الشعبي
أحدث استطلاع لمؤسسة "بيرتلسمان" في مايو الماضي، كشف أن 36% فقط من الألمان ينظرون إلى إسرائيل بإيجابية، مقارنة بـ46% في عام 2021، فيما عبّر ثلث الألمان فقط عن شعور بالمسؤولية التاريخية تجاه إسرائيل. هذه الأرقام تمثل تحولًا دراماتيكيًا في الرأي العام، وتفتح الباب أمام مطالبات سياسية بفرض قيود على الدعم العسكري لإسرائيل.
في السياق، يتزايد الضغط المجتمعي، إذ وقّع نحو 200 مثقف ألماني رسالة مفتوحة بعنوان "لا تدع غزة تموت، سيد ميرز"، طالبوا فيها بوقف صادرات السلاح لإسرائيل ودعم تعليق اتفاقية الشراكة الأوروبية معها، إضافة إلى فرض وقف فوري لإطلاق النار.
ضغوط داخلية وخارجية
حزب الاشتراكيين الديمقراطيين، الشريك الأساسي في الائتلاف الحاكم، يطالب بوقف أو تقليص صادرات السلاح إلى إسرائيل. في المقابل، يضغط حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي، الحليف التقليدي للمسيحيين الديمقراطيين، للإبقاء على الدعم الكامل لحكومة بنيامين نتنياهو.
على الصعيد الأوروبي، يتحرك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر نحو الاعتراف بدولة فلسطين حتى قبل التوصل إلى تسوية نهائية، فيما يرفض ميرز هذه الخطوة، معتبرًا أن الدولة الفلسطينية يجب أن تنشأ عبر المفاوضات المباشرة.
خطوات محسوبة
كشفت مصادر حكومية ألمانية أن "ميرز" أجرى مكالمات متوترة مع نتنياهو طالب فيها بوقف إطلاق النار والسماح بدخول مساعدات إنسانية أوسع إلى غزة، كما ضغط بالتنسيق مع ماكرون وستارمر على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتكثيف الضغوط على إسرائيل.
وتدرس برلين الآن دعم اقتراح المفوضية الأوروبية بتعليق جزئي لاتفاقية الشراكة مع إسرائيل، وهو إجراء رمزي بالأساس، لكنه سيمثل تحولًا كبيرًا في السياسة الألمانية. إذ تتيح الاتفاقية لإسرائيل المشاركة في برامج بحثية كبرى مثل Horizon Europe، وتعليق بعض أوجهها مطلب رئيسي لدى الاشتراكيين الديمقراطيين.
إلى جانب ذلك، واصلت ألمانيا المشاركة في إسقاط المساعدات جوًا فوق غزة بالتنسيق مع الأردن، كما أوفد ميرز وزير خارجيته يوهان فادهبول إلى تل أبيب ورام الله للضغط نحو انفراج إنساني.
معضلة "المسؤولية التاريخية"
يقول خبراء إن ميرز يتحرك وسط "حقل ألغام سياسي". فبعد الهولوكوست، كان الشعار في ألمانيا "لن يتكرر ذلك أبدًا"، أما بعد هجوم حماس على إسرائيل، رُفع شعار جديد: "لن يتكرر ذلك الآن". لكن استمرار الحرب في غزة، وما يرافقها من دمار ومجاعة، أحدث شقوقًا في هذا الموقف التاريخي الثابت.
وتقول كلوديا مايور، المحللة في صندوق مارشال الألماني: "في كل ما يتعلق بإسرائيل ومعاداة السامية، المعيار في ألمانيا مختلف، والخطأ فيه مكلف سياسيًا وأخلاقيًا".
وفق خبراء مثل تورستن بينر، مدير معهد السياسات العامة في برلين، يمكن لميرتس اتخاذ خطوات إضافية مثل فرض عقوبات على وزراء اليمين المتشدد في الحكومة الإسرائيلية على غرار هولندا، وتجميد شحنات أسلحة مؤقتًا بحجة أن لدى إسرائيل مخزونًا كافيًا للدفاع عن نفسها، واستقبال مزيد من الأطفال الجرحى من غزة للعلاج في مستشفيات ألمانية.