حين تصطدم الحدود الوطنية بوسائل التواصل الاجتماعي، لم تعد المعارك تخاض في ميادين السياسة أو القضاء فقط، بل على صفحات منصات افتراضية باتت تتحكم في إيقاع الرأي العام.
مواجهة غير مسبوقة
وسلّط موقع "فير أوبزرفر" الأمريكي" على مواجهة قضائية غير مسبوقة اندلعت بين شركة "إكس" (تويتر سابقًا) التابعة لإيلون ماسك، والحكومة الهندية، متسائلًا "مَن يملك حق قول الحقيقة في زمن تتحكم فيه المنصات بمن يراها؟".
في خطوة تصعيدية أثارت ضجة عالمية، رفعت شركة "إكس"، المملوكة لإيلون ماسك، دعوى قضائية ضد الحكومة الهندية، تتهمها فيها بممارسة "رقابة تعسفية" على المنصة بموجب قانون تكنولوجيا المعلومات، وجاء في نص الدعوى أن تلك التدخلات الحكومية تُقوّض حرية التعبير كما نص عليها الدستور الهندي، مستشهدة بالحكم التاريخي الصادر عن المحكمة العليا في قضية "شريا سينجال ضد اتحاد الهند" عام 2013.
وتدور القضية حول أوامر حكومية تطالب المنصات بحذف محتويات تعتبرها الدولة "ضارة"، في المقابل، ترى "إكس" أن هذه الأوامر تتجاوز الخطوط القانونية والدستورية، وتقوّض نموذج عملها كوسيط للمحتوى العام.
وأحيلت الدعوى إلى محكمة كارناتاكا العليا، التي تُعد من أبرز الهيئات القضائية في جنوب الهند، حيث من المتوقع أن تصدر حكمًا سيُحدد ليس فقط حدود الرقابة، بل مصير العلاقة بين الدول ومزودي التكنولوجيا العالميين.
دفاع الهند
وردت الحكومة الهندية، بقيادة حزب بهاراتيا جاناتا (BJP)، على الدعوى بالتأكيد على ضرورة امتثال جميع شركات التكنولوجيا، بما فيها الأجنبية، للقوانين الوطنية، إذا أرادت الاستمرار في العمل داخل الهند.
وأكدت الحكومة أن تنظيم المحتوى الإلكتروني لا يعد رقابة بالمعنى القمعي، بل هو إجراء لحماية النسيج المجتمعي من المعلومات المضللة، وخطاب الكراهية، والدعوات المتطرفة.
وقالت وزارة تكنولوجيا المعلومات إن ما تفعله هو "تنظيم سيادي لمجال رقمي مفتوح، وليس خنقا لحرية التعبير"، رافضة الاتهامات باستخدام مصطلحات "مؤسفة ومدانة" كالرقابة لقضايا تنظيمية عادلة، وفق تعبيرها.
المواجهة
المواجهة بين "إكس" والحكومة الهندية تثير تساؤلات عميقة حول الدور الحقيقي الذي تلعبه شركات التكنولوجيا الكبرى، فبينما تدعي هذه الشركات أنها تمثل حرية التعبير والديمقراطية، يشير واقع العمليات إلى ما هو أبعد من ذلك.
بحسب "فير أوبزرفر"، فإن هذه المنصات ليست كيانات حيادية كما تدعي، بل إنها تسيرها مصالح اقتصادية، وتوجهات أيديولوجية، وتحالفات سياسية، تُلقي بظلالها على ما يُنشر، ومن يُمنح الصوت، ومن يُقصى.
وحسب "فير أوبزرفر"، يدور الجدل المحوري حول سؤالين رئيسيين، هل يحق للدولة الديمقراطية حجب أو تقييد المحتوى الذي تعتبره ضارًا استنادًا إلى دستورها؟، وهل من حق شركات التواصل الاجتماعي رفض الانصياع لهذا التنظيم، بذريعة حماية حرية التعبير؟
ويقول "فير أوبزرفر" إن الواقع أكثر تعقيدًا من كلا الادعاءين، فالهند، كما دول كثيرة، تحاول فرض إطار قانوني لمساءلة هذه المنصات، بعدما عجزت تلك الأخيرة عن إثبات قدرتها الذاتية على ضبط خطاب الكراهية أو منع التلاعب السياسي.
وتضيف المجلة الأمريكية أن الشركات مثل "إكس" و"ميتا" كثيرًا ما مارست إجراءات انحياز سياسي، مثل حذف حسابات أو تقييد وصول مستخدمين بناءً على ميولهم السياسية، رغم زعمها الحياد.
وتعد فضيحة "كامبريدج أناليتيكا" مثالًا صارخًا على تعاون غير قانوني بين شركات البيانات ومنصات التواصل لاستهداف الناخبين والتلاعب بالانتخابات.
"إكس" تحت قناع الحياد
تشير تقارير موثوقة إلى أن شركة "إكس" تتسامح مع محتويات عنصرية وعدائية تجاه الأقليات، بل إن بعض مديريها التنفيذيين يروجون لخطابات الكراهية تحت مسميات حرية التعبير.
في حالات موثقة، حظيت حسابات لسياسيين يمينيين متطرفين في الولايات المتحدة بمعاملة تفضيلية، في حين قُيدت حسابات شخصيات يسارية أو معارضة، سواء في أمريكا أو الهند.
وفي السياق الهندي، تم رصد تحيزات "جروك" لصالح حزب المعارضة (المؤتمر)، ما يثير أسئلة حول مدى تدخل توجهات إدارة الشركة في توجيه النقاش السياسي داخل الهند.
في حين أن الاتحاد الأوروبي استطاع فرض تنظيمات صارمة على شركات مثل "ميتا"، متعلقة بالخصوصية والشفافية والإعلانات السياسية، يُطرح التساؤل: لماذا يدان السعي الهندي نفسه؟
الإجابة كما تراها "فير أوبزرفر" تكمن في معايير مزدوجة تُطبّقها الشركات، ففي حين تخضع في أوروبا للرقابة، تحاول التهرب منها في دول الجنوب العالمي، ما يُكرّس تفاوتًا في السيادة الرقمية.
قانون التكنولوجيا
في خضم هذه المواجهة، يظهر انحياز واضح لصالح التنظيم الحكومي على حساب تحكم الشركات الخاصة. الحكومة الهندية، رغم عيوبها المحتملة، هي كيان ديمقراطي يمكن محاسبته عبر القضاء والانتخابات، أما "إكس"، فهي شركة مدفوعة بالربح، خاضعة لمصالح مساهميها لا لمصالح المواطنين.
ترى "فير أوبزرفر" أن قانون تكنولوجيا المعلومات الهندي يمثل محاولة ضرورية لترسيخ المساءلة على شركات التكنولوجيا الأجنبية، بما يضمن احترام سيادة الدولة، دون أن يُفضي إلى قمع الحريات.
الحل لا يكمن في منح شركات التكنولوجيا الغربية حرية مطلقة، بل في تقوية مؤسسات الديمقراطية المحلية القضاء المستقل، هيئات الرقابة، وآليات الشفافية كقانون الحق في الحصول على المعلومات.