يتزايد عدد المنتقدين للحرب على غزة داخل إسرائيل، قائلين إن الأهداف العسكرية قد حلت محلها منذ فترة طويلة الأهداف السياسية لليمين المتطرف، وفق تحليل نشرته صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية، لمراسلها نيري زيلبر.
صدمة الإسرائيليين
استهل "زيلبر" التحليل بأنه عندما أدى كمين نصبته حماس إلى مقتل 5 جنود إسرائيليين، وإصابة 14 آخرين في غزة هذا الشهر، أصيب الرأي العام الإسرائيلي بالصدمة ليس فقط بسبب عدد القتلى، لكن أيضا بسبب موقع الحادث.
تقع مدينة بيت حانون الشمالية، التي كانت على الطريق الأولي لهجوم القوات الإسرائيلية عندما غزت غزة لأول مرة بعد هجوم حماس، 7 أكتوبر 2023، وحاليًا داخل "منطقة عازلة" عسكرية إسرائيلية، وكانت عرضة لأربع هجمات منفصلة للقوات الإسرائيلية.
وقال المحلل السياسي، إن تمكن عناصر حماس من تنفيذ الهجوم في المدينة - أو ما تبقى منها - أثار سؤالًا غير مريح بالنسبة للعديد من الإسرائيليين: "ما الذي يحققه الجيش الإسرائيلي فعليًا في غزة؟".
وأضاف أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأنصاره يصرون على أن القوة العسكرية فقط هي التي ستنجح في تحرير المحتجزين الخمسين المتبقين، الذين لا يزالون محتجزين لدى حماس وتدمير الحركة.
ومع ذلك، وبعد مرور 21 شهرًا، لم يتحقق أي من هذين الهدفين بالكامل. فمعظم غزة الآن في حالة دمار، إذ استشهد ما يقرب من 60 ألف فلسطيني، وفقًا لمسؤولين محليين. وأبدى الحلفاء، بمن فيهم الولايات المتحدة، غضبًا متزايدًا تجاه إسرائيل، بسبب الخسائر في صفوف المدنيين.
وبالنسبة لعدد متزايد من المنتقدين المحليين، تبدو حملة جيش الاحتلال الإسرائيلي بلا هدف على نحو متزايد، إذ يتم التضحية بالقوات الإسرائيلية والمحتجزين والمدنيين الفلسطينيين من أجل تحقيق الأهداف السياسية لنتنياهو.
ويرى المنتقدون أن إصرار رئيس الوزراء الإسرائيلي على الاستمرار في الحرب هو غطاء سياسي للحفاظ على تماسك ائتلافه الحكومي، الذي هدد أعضاؤه من اليمين المتطرف بإسقاط الحكومة إذا أنهى الصراع، كل هذا في حين يغرق جيش الاحتلال الإسرائيلي في مستنقع ناشئ.
حرب استنزاف بلا هدف
وقال مايكل ميلشتاين، ضابط الاستخبارات السابق في الجيش الإسرائيلي: "إنها حرب استنزاف.. بلا هدف أو غرض استراتيجي، مثل المشي في مستنقع".
كما شهدت الفترة الأخيرة ارتفاعًا في عدد القتلى الإسرائيليين، إذ قتل 35 جنديًا في غزة، منذ يونيو مقارنة بـ11 جنديًا، في الأشهر الثلاثة التي أعقبت انتهاك نتنياهو لوقف إطلاق النار القصير، مارس الماضي.
وقال ميلشتاين: "حماس لا تزال موجودة، بل نشطة. إنها لا تزال القوة المهيمنة داخل القطاع. لم يخلق أي بديل حقيقي، ولم يعاد أي محتجز حيًا منذ مارس".
واتهم بعض المنتقدين الإسرائيليين، ومن بينهم رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت، إسرائيل بارتكاب جرائم حرب.
ويخشى آخرون، بما في ذلك العرب والفلسطينيون وكثيرون غيرهم في مختلف أنحاء العالم، من أن يكون هناك هدف آخر وراء الهجوم الإسرائيلي، هو جعل القطاع غير صالح للسكن وإجبار سكان غزة على الخروج منه إلى الأبد.
وتشير استطلاعات الرأي إلى أن الأغلبية الساحقة من الإسرائيليين تؤيد التوصل إلى اتفاق لتأمين إطلاق سراح المحتجزين في غزة، الذين يعتقد أن نحو 20 منهم على قيد الحياة، بما في ذلك إذا كان ذلك يعني إنهاء الحرب الأطول بالفعل في تاريخ البلاد.
ورغم أن المحادثات بشأن وقف إطلاق نار جديد لمدة 60 يومًا داخل القطاع مستمرة في قطر، فإن الوعود التي صدرت في وقت سابق من هذا الشهر بتحقيق تقدم سريع أثبتت أنها وهمية.
ومن المعروف أن إسرائيل وحماس على خلاف بشأن مدى انسحاب جيش الاحتلال، وتسعى الحركة الفلسطينية إلى الحصول على ضمانات، رفض نتنياهو تقديمها، بأن الحرب ستنتهي بشكل دائم بعد الهدنة المؤقتة.
هجوم على دير البلح
وفي حين لم تسفر المحادثات عن نتائج حاسمة، شنت القوات الإسرائيلية هذا الأسبوع، هجومًا بريًا كبيرًا على مدينة دير البلح في وسط غزة، وهي واحدة من الجيوب المتبقية الأخيرة في القطاع، التي لم تغزها إسرائيل بعد بسبب معلومات استخباراتية تفيد بوجود محتجزين هناك.
والقوات الإسرائيلية، التي تنتشر الآن في نحو 3 أرباع غزة، تعمل أيضًا على أطراف مدينة غزة وفي مدينة خان يونس جنوب القطاع، وسويت معظم بقية غزة، بما في ذلك مدينة رفح الفلسطينية بالأرض.
وقال جندي احتياط في جيش الاحتلال الإسرائيلي، انتشر في جنوب غزة: "رفح الفلسطينية لم تعد موجودة، لم تعد موجودة. إنها مجرد أنقاض.. أمضت حماس 17 عامًا في تشكيل غزة على طريقتها. أما نحن، فقد أمضينا ما يقرب من عامين في تشكيلها على طريقتنا".
وقالت إسرائيل، العام الماضي، إنها دمرت أكثر من 20 من كتائب حماس الإقليمية البالغ عددها 24 كتيبة، وقتلت أكثر من 20 ألف عنصر، بما في ذلك جميع كبار قادة الحركة تقريبًا، مثل يحيى السنوار ومحمد الضيف.
لكن في حين تم القضاء على حماس إلى حد كبير كقوة قتالية منظمة، فقد تمكنت الحركة من تجنيد الآلاف من المقاتلين الشباب الجدد، وفقًا للتقييمات الاستخباراتية الإسرائيلية والأمريكية، وتستمر في ممارسة السيطرة الداخلية الفعالة في المناطق التي لا تسيطر عليها إسرائيل. ولا تزال الخلايا المعزولة تشن هجمات قاتلة من أنفاقها المتبقية ومخابئها والآثار المحيطة بها.
وتقول القوات الإسرائيلية إنها نادرًا ما تواجه مقاتلي حماس في ساحة المعركة المفتوحة، مشيرة إلى أن مهمتها الأساسية هي تدمير أي بنية تحتية عسكرية متبقية، بما في ذلك شبكة الأنفاق، والسيطرة على الأراضي.
غارات جوية متواصلة
كما يشن جيش الاحتلال الإسرائيلي غارات جوية متواصلة يزعم أنها تستهدف مسلحي حماس، لكنه في هذه العملية يقتل العشرات من المدنيين بشكل يومي تقريبًا، وفقًا للسلطات الصحية المحلية.
ووفقا لمسؤول عسكري إسرائيلي كبير، فإن الاستراتيجية الضمنية التي ينتهجها جيش الاحتلال هي الاستمرار في زيادة الضغوط على حماس للموافقة على شروط إسرائيل في محادثات وقف إطلاق النار.
وقال رئيس الأركان الإسرائيلي إيال زامير، للجنود في بيت حانون، الأسبوع الماضي: "نحن نقترب من مفترق طرق حاسم للغاية. إذا تم التوصل إلى اتفاق، فسنتوقف ونعيد التمركز وفق الخطوط التي حددها المستوى السياسي. وإذا لم يتم التوصل إلى اتفاق، فإن توجيهاتي هي تكثيف وتوسيع العمليات القتالية قدر الإمكان".
وهناك علامات واضحة على الخلاف بين الجيش وحكومة نتنياهو حول ما يعتقدون أنه ينبغي لإسرائيل أن تتخذه من خطوات في المستقبل.
وبحسب شخصين مطلعين على مداولات الحكومة الإسرائيلية، فإن زامير والقيادة العليا في جيش الاحتلال يؤيدون اتفاق وقف إطلاق النار لإعادة نصف المحتجزين المتبقين على الأقل في البداية.
يقول الجنرالات إن البديل هو في الواقع استعادة القطاع بأكمله، بما في ذلك إرسال قوات إلى مناطق جديدة مثل دير البلح، وهو ما قد يعرض حياة المحتجزين للخطر، مع وقوع العبء الكامل لإدارة المنطقة على عاتق الجيش.
لكن بالنسبة لمؤيدي الحرب، فإن ضمان القضاء على حماس يتطلب مزيدًا من العمل العسكري، إما لإجبارها على تسريح قواتها أو لهزيمتها نهائيًا في ساحة المعركة. وصرح نتنياهو بأنه لن ينهي الحرب إلا بعد إعادة جميع المحتجزين، ونزع سلاح حماس، و"عدم عودة غزة إلى تهديدها لإسرائيل".
وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي، في مقطع فيديو على "فيسبوك"، الأسبوع الماضي، إن أي شيء أقل من ذلك من شأنه أن يزرع بذور تكرار سيناريو السابع من أكتوبر.
وأضاف ياكوف أميدرور، مستشار الأمن القومي السابق لرئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي يعمل الآن في مركز جينسا للأبحاث في واشنطن: "إذا لم تضع حماس سلاحها، فسيتعين علينا الوصول إلى كل نقطة في غزة لقتل المقاتلين المتبقين والقضاء على قدرات حماس".
إلا، كما زعم أميدرور، فلن يكون هناك أي طرف آخر على استعداد أو قادر على تولي حكم القطاع، حتى مع "عدم أهمية" حماس كتهديد عسكري حقيقي لإسرائيل.
وأوضح أن "هذه هي الحرب الآن"، مؤكدًا أنه إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق مع حماس فإن "غزة كلها ستصبح مثل رفح".
احتلال غزة
وذهب أعضاء اليمين المتطرف في حكومة نتنياهو إلى أبعد من ذلك، إذ تحدثوا علانية عن إعادة احتلال غزة وإعادة توطين السكان فيها.
في الأسابيع الأخيرة، دفع وزير الدفاع إسرائيل كاتس، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، الجيش إلى إعداد "مدينة إنسانية" في منطقة رفح، التي سيتم نقل مئات الآلاف من الفلسطينيين إليها قسرًا دون القدرة على العودة.
ويعارض كبار جنرالات جيش الاحتلال بشدة هذا المخطط، وفقًا لشخص مطلع على الأمر، خوفًا من أنه ينتهك القانون الدولي وغير عملي، أُدين هذا الاقتراح عالميًا باعتباره بمثابة تطهير عرقي.
ودون التوصل إلى حل تفاوضي، سيستمر شعب غزة في دفع ثمن باهظ لا يُطاق، إذ نزحت الغالبية العظمى من السكان بالفعل عدة مرات وأصبحت على حافة المجاعة، وفقًا لمنظمات الإغاثة الدولية.
ولكن مع عدم وجود نهاية في الأفق، يحذر المنتقدون الإسرائيليون مثل ميلشتاين من أن غزة أصبحت ما يسميه "عاصمة الأوهام الإسرائيلية": مكان يروي فيه قادة البلاد لأنفسهم ولجمهورهم قصصًا عن "نصر" وشيك ولكنه غير واقعي. قال ميلشتاين: "إنها قصة هذه الحرب. إنجازات تكتيكية كثيرة، دون أي إنجاز استراتيجي".