في وقت تضغط فيه الولايات المتحدة لكبح البرنامج النووي الإيراني، ومشاركتها إلى جانب إسرائيل في حربٍ استمرت 12 يومًا ضد طهران، تسعى كوريا الجنوبية بخطى حذرة نحو دخول النادي النووي، رغم إدراكها صعوبة هذه الخطوة في ظل الاعتراض الأمريكي المحتمل، ومخاوف من رد فعل حاد من جارتها الشمالية.
على مدى قرن من الزمان، قادت الولايات المتحدة جهودًا مكثفة للحد من انتشار الأسلحة النووية، ونجحت إلى حد كبير عبر مزيج من الدبلوماسية، والعمل السري، والتدخل العسكري المباشر، لإجهاض محاولات تطوير أسلحة نووية في أمريكا اللاتينية وأوروبا وإفريقيا وآسيا.
لم يكن الهدف دائمًا نزع السلاح لأسباب إنسانية أو أمنية فقط، بل لضمان استمرار تفوقها النووي، إذ إن ظهور أي قوة نووية جديدة يعني –من منظور أمريكي– تقليصًا للهيمنة التي تمتعت بها واشنطن حين كانت القوة النووية الوحيدة في العالم، بحسب تقرير لمجلة "ذا أتلانتيك" الأمريكية.
ولم تقدم الولايات المتحدة دعمًا لأي حليف في تطوير سلاح نووي إلا مرة واحدة فقط، حين تقاسمت أبحاثها التقنية مع بريطانيا في إطار "مشروع مانهاتن"، قبل أن يقرّ الكونغرس عام 1946 قانونًا يحظر جميع أشكال هذا التعاون مستقبلاً.
9 دول فقط في النادي النووي
وسعت الإدارات الأمريكية المتعاقبة إلى منع حلفائها، مثل ألمانيا الغربية وأستراليا والبرازيل والسويد، من امتلاك ترسانات نووية، ونجحت حتى في إقناع جنوب إفريقيا بتفكيك برنامجها النووي الذي وصل إلى مرحلة متقدمة. واليوم، من بين 193 دولة في العالم، لا تمتلك الأسلحة النووية سوى تسع دول فقط.
في المقابل، ينظر كثير من الكوريين الجنوبيين بقلق متزايد إلى جارهم الشمالي المسلح نوويًا، والذي لا تفصلهم عنه حتى مساحة عازلة كافية، على غرار مضيق تايوان مثلًا، إذ لا تزال الكوريتان في حالة حرب من الناحية الفنية منذ عام 1953.
وعلى النقيض من النهج السلمي في الجنوب، حدثت كوريا الشمالية ترسانتها النووية بوتيرة متسارعة، وتمتلك حاليًا عشرات الرؤوس الحربية، فيما لم يتردد زعيمها كيم جونج أون في التهديد باستخدام هذه الأسلحة ليس فقط كوسيلة ردع أخير، بل كضربة استباقية قد تُحوّل العاصمة الكورية الجنوبية سيول إلى "بحر من النيران"، بحسب "ذا أتلانتيك".
وفي ظل هذه المخاطر، لا يبدو أن كوريا الجنوبية تفتقر إلى القدرات اللازمة للانضمام إلى النادي النووي؛ فهي دولة متقدمة تكنولوجيًا وغنية اقتصاديًا، وتملك الحافز الاستراتيجي. لكنّ العامل الوحيد الذي حال دون امتلاكها لسلاح نووي، بحسب الصحفي روس أندرسن في مجلة "ذا أتلانتيك"، هو تدخل الولايات المتحدة في المرتين اللتين حاولت فيهما سول بناء برنامجها النووي، حيث تدخّل الرؤساء الأمريكيون وأقنعوا القيادات الكورية الجنوبية بالتراجع.
أول برنامج سري
أطلق المجلس العسكري الذي حكم كوريا الجنوبية في سبعينيات القرن الماضي أول برنامج نووي سري للبلاد بعد أن أشارت الولايات المتحدة إلى انسحابها من آسيا، كان الجنرالات المتوترون يتفاوضون سرًا مع فرنسا لشراء محطة إعادة معالجة.
عندما اكتشف الرئيس الأمريكي الأسبق جيرالد فورد الأمر، هددت إدارته بإنهاء التحالف العسكري الأمريكي الكوري، وضغطت لإلغاء الصفقة، في النهاية، صادقت كوريا الجنوبية على معاهدة حظر الانتشار النووي عام 1975.
بعد 6 سنوات فقط، وبعد أن بدأت كوريا الشمالية العمل على مفاعل بلوتونيوم، تدخلت إدارة رونالد ريجان لوقف برنامج آخر من هذا القبيل، كان البرنامج أقل خطورة من الأول، لكن الرئيس الأمريكي آنذاك ريجان ظل راغبًا في إلغائه فقد أكد لـ"تشون دو هوان"، رئيس كوريا الجنوبية آنذاك، أن القوات البرية الأمريكية ستبقى في شبه الجزيرة الكورية إلى أجل غير مسمى، ووافق "تشون" على إيقاف أبحاث الأسلحة نهائيًا.
وخلال السنوات العصيبة التي أعقبت الحرب الباردة، أزال جورج بوش الأب الرؤوس الحربية الأمريكية التي كانت متمركزة منذ فترة طويلة في قواعد في كوريا الجنوبية، ثم ضغط على رئيسها لتوقيع تعهد مشترك مع كوريا الشمالية بالحفاظ على شبه الجزيرة خالية من الأسلحة النووية إلى الأبد، لكن هذا التعهد ثبت أنه مجرد خدعة، إذ اختبرت كوريا الشمالية أول قنبلة نووية بدائية بعد 14 عامًا فقط، خلال رئاسة جورج دبليو بوش.
برنامج كوريا الشمالية النووي
بينما كان الرئيس الديمقراطي باراك أوباما، يعتقد أنه قادر على إقناع الصين بالضغط على كوريا الشمالية حتى تتخلى عن برنامجها النووي، لكن لم تفلح مساعيه إذ كانت الأولوية الأولى للرئيس الصيني شي جين بينج، هي استقرار نظام كيم، فإذا انهار النظام في كوريا الشمالية سيتدفق اللاجئون إلى الصين، وسيفقد "شي" الدولة العازلة التي تفصله عن كوريا الجنوبية، حليفة أمريكا القديمة.
يُقدَّر أن "كيم" يمتلك بالفعل نحو 50 رأسًا حربيًا، والمواد اللازمة لبناء ما يصل إلى 90 رأسًا آخر، وقد تزايدت طموحاته النووية بالتوازي مع طموحات الصين، فهو لا يريد أن يكون ندًا نوويًا للهند وباكستان، اللتين اكتفتا بنحو 170 رأسًا حربيًا لكل منهما، يريد كيم امتلاك نحو 300 رأس، مثل المملكة المتحدة وفرنسا.
من جانبه قال جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي السابق في عهد الرئيس جو بايدن، أن أول تجربة صاروخ باليستي عابر للقارات أجرتها كوريا الشمالية عام 2017 كانت بمثابة "كسر للعتبة"، وأظهرت أن جهود كيم لبناء صواريخ قادرة على الوصول إلى البر الرئيسي الأمريكي كانت أبعد مما كان يُعتقد سابقًا، وربما يحصل الآن على مساعدة من روسيا، مقابل إرساله 14 ألف جندي وملايين الطلقات إلى أوكرانيا.
موافقة سرية
وفقًا لاستطلاعات الرأي التي أجريت في السنوات الأخيرة، فإن 70% من الشعب الكوري الجنوبي يريد أن تمتلك البلاد ترسانتها النووية الخاصة، وفي عام 2022.
إذا أطلقت كوريا الجنوبية برنامجًا نوويًا، فمن المرجح أن تفعل ذلك سرًا، سيرغب قادتها في تجنب المعاناة من نظام عقوبات تقوده الولايات المتحدة، كما حدث مع الهند بعد تفجيرها النووي عام 1998، سينكمش التصدير الكوري الجنوبي بسرعة.
قد تسعى كوريا الجنوبية سرًا للحصول على موافقة أمريكا، بحسب فيكتور تشا، رئيس قسم كوريا والجيوسياسات في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، الذي قال إن كوريا الجنوبية ستسعى جاهدةً لجس نبض البيت الأبيض، لستَ مُلزمًا بدعم برنامجنا النووي، وفقط لا تُعارضه، بعض الأشخاص في إدارة ترامب الحالية لن يميلوا لمعارضته إطلاقًا، خلال حملته الانتخابية عام 2016، اقترح ترامب نفسه أن تدرس كوريا الجنوبية واليابان إمكانية امتلاك أسلحتهما النووية".