شكَّلت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بريطانيا، في الفترة من 8 إلى 10 يوليو 2025 محطة مفصلية في العلاقات الثنائية بين البلدين، إذ تعد الزيارة الأولى من نوعها منذ توليه الحكم في 2017، والأولى منذ خروج بريطانيا رسميًا من الاتحاد الأوروبي في 2020، كما تأتي هذه الزيارة في سياق سياسي دولي بالغ الحساسية، مع عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير 2025، وما أثارته مواقفه من تحولات في العلاقات الأمريكية الأوروبية، لا سيما دعوته لزيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي ضمن حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وتبنّيه سياسات تجارية حمائية أثارت قلقًا اقتصاديًا واسعًا في أوروبا، إضافة إلى مواقفه المتباينة من الحرب الروسية الأوكرانية، وقضايا الشرق الأوسط.
قضايا الزيارة
جاءت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بريطانيا لتتناول العديد من القضايا والملفات، والتي يمكن الإشارة إلى أهمها على النحو التالي:
(*) دعم الاستقلالية الأوروبية: تعكس الزيارة في أحد جوانبها ما سبق أن طرحه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن دعم الاستقلالية الأوروبية، سواءً ما يتعلق بشقها العسكري وطرحه لفكرة الجيش الأوروبي المستقل عن التبعية للولايات المتحدة الأمريكية، واعتباره أن حلف الناتو يعاني من سكته دماغية، أو في الشق الاقتصادي، إذ حذَّر ماكرون خلال كلمته أمام البرلمان البريطاني من التهديدات الجيوسياسية التي تواجه الدولتين، مؤكدًا ضرورة الحذر من الاعتماد المفرط على الولايات المتحدة والصين، والحاجة إلى حماية الاقتصاد والمجتمع في أوروبا من مخاطر هذه التبعية المزدوجة.
(*) مواجهة الهجرة غير النظامية: تصدرت أزمة الهجرة غير النظامية المباحثات بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء كير ستارمر، في ظل تعثر التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن إعادة طالبي اللجوء، وتسعي بريطانيا إلى تعزيز جهود مكافحة الهجرة غير النظامية بشكل خاص بعد تسجيل عدد قياسي من المهاجرين الوافدين عبر المانش (القناة الإنجليزية) بلغ ما يقرب من 21 ألف مهاجر غير شرعي منذ بداية 2025.
وتعد قضايا الهجرة غير النظامية واللجوء من الأولويات الأوروبية التي تحظى بالمناقشة فى غالبية اللقاءات الأوروبية المشتركة، لا سيما أنها تعد سلاحًا ذا حدين، فمن ناحية تعتبر فرصة للدول الأوربية لاستعادة توازن الهرم السكاني بها، فثمة معاناة في أغلب الدول الأوربية من الخلل الديموجرافي، وهو ما سيشكِّل تهديدًا لفرص التنمية بها، إذ يغلب على الهرم السكاني افتقاده للمكون الشبابي، في ظل العزوف عن الانجاب لدى قطاع معتبر من الأوربيين.
ومن ناحية ثانية، فإن الهجرة والنزوح إلى الدول الأوربية قد تحمل مخاطر على الأمن الأوروبي من خلال احتمالية تسلل عناصر إرهابية إلى العمق الأوروبي، وهو ما أدى إلى تنامي النزعات القومية والمتطرفة ضد المهاجرين واللاجئين إلى الدول الأوربية، ومع وصول حكومات يمينية في عدد من هذه الدول، فإنها تبنت سياسة معادية ضد هؤلاء المهاجرين واللاجئين.
(*) دعم أوكرانيا: يشكِّل الدعم البريطاني والفرنسي لأوكرانيا هدفًا مشتركًا للجانبين، في ظل التراجع الأمريكي عن مساندة أوكرانيا عسكريًا منذ وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والذي سعى لوقف إطلاق النار بين روسيا وأوكرانيا من خلال مباحثات ثنائية استُبعِدت فيها أوروبا فى مراحلها الأولى. لذلك أعلن ماكرون خلال زيارته عن تصميم مشترك مع بريطانيا على مواصلة دعم كييف عسكريًا وسياسيًا في مواجهة الغزو الروسي على حد وصفه.
ويعد الملف الأوكراني عاملًا محوريًا للتقارب الفرنسي البريطاني لاختبار مدى قدرة القارة الأوروبية على حماية أمنها ضد التهديدات الخارجية، باعتبارهما أكبر قوتين عسكريتين في القارة وامتلاكهما للسلاح النووي كعنصر للردع، وهو الأمر الذي يتماشى مع سبق أن طرحه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول المظلة النووية الفرنسية، التي يمكن أن تمتد لتشمل الحلفاء فى القارة الأوروبية.
(*) التعاون الدفاعي: يشكِّل التعاون الدفاعي أحد مجالات التعاون البريطاني والفرنسي، إذ شدد ماكرون على أهمية التعاون الدفاعي بين باريس ولندن معتبرًا أن القوات المسلحة فى البلدين تمثلان معًا حجر الأساس للركيزة الأوروبية داخل حلف الناتو، ما يمكن من العمل كدول إطار قادرة على الانتشار في عدة مسارح عملياتية والدفاع عن الأرض الأوروبية إلى جانب حلفائهما، مضيفًا أن القمة الفرنسية البريطانية تمثل لحطة مفصلية لتعزيز القدرات الإستراتيجية المشتركة لا سيما في الملفات الحساسة مثل الردع النووي، مشيدًا بما تحقق في هذا السياق.
(*) تبني حل الدولتين: جدد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في ختام الزيارة دعوته إلى حل الدولتين في الشرق الأوسط، والاعتراف بالدولة الفلسطينية، داعيًا رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر إلى اعتراف مشترك بين المملكة المتحدة وفرنسا بالدولة الفلسطينية، وهو ما سبق أن طالب به في خطاباته السابقة وأضاف ماكرون أنه يريد بدء هذه الديناميكية السياسية للاعتراف بالدولة الفلسطينية، واصفًا مثل هذه الخطوات بأنها الأمل الوحيد السلام في المنطقة التي مزقتها الصراعات.
من جهته، وصف ستارمر الوضع في غزة بأنه لا يطاق على الإطلاق مؤكدًا الحاجة إلى وقف فوري لاطلاق النار موضحًا: "نحتاج إلى إيصال المساعادات بكميات ضخمة وبوتيرة سريعة، وهو ما لا يحدث حاليًا على أرض الواقع"، وتابع رئيس وزراء بريطانيا: "لقد كانت السياسة الراسخة لحزب العمال البريطاني وحكومته هي الاعتراف بفلسطين كجزء من العملة السياسية ولا يزال هذا موقفنا"، وأضاف: "لا أعتقد أنه من الممكن تحقيق حل وسط دائم إذا لم يكن لدينا حل الدولتين في الشرق الأوسط.. لكن يجب أن ينصب التركيز الآن بشكل كامل على تحقيق وقف إطلاق النار بما يفتح المجال أمام الحلول السياسية لمعالجة ما لا يمكن للقتال حله".
(*) حماية النظام العالمي: اشتمل خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي ألقاه أمام البرلمان البريطاني على دعوته لكل من فرنسا والمملكة المتحدة إلى العمل معًا من أجل حماية النظام العالمي الذي أُرسيت دعائمه بعد عام 1945، بدءًا بدعم أوكرانيا وتعزيز الروابط بين لندن والاتحاد الأوروبي، كما أكد ماكرون على أهمية أن تُظهِر المملكة المتحدة وفرنسا مرة أخرى للعالم أن تحالفهما يصنع فارقًا.
ختامًا، تمثل زيارة ماكرون إلى بريطانيا سعيًا لتعزيز الاستقلالية الأوروبية لمواجهة التهديدات المتتالية التى تواجه أوروبا على المستويين الداخلي والخارجي، وهو ما عبر عنها ماكرون خلال الزيارة بأن باريس ولندن تقفان في الصفوف الأمامية للدفاع عن أمن أوروبا وقيمها الديمقراطية، وأكد على نفس التوجهات الملك تشارلز خلال لقائه بماكرون بأن الصداقة بين المملكة المتحدة وفرنسا تمثل ركيزة أساسية للحفاظ على الحريات والسلام في أوروبا.