في مشهد سياسي يُعيد تشكيل خارطة القوة في واحدة من أعقد المدن الأمريكية، صنع زهران ممداني، التاريخ، الطفل الذي ولد في أوغندا، ونشأ لاجئًا في نيويورك، أطاح بالحاكم السابق أندرو كومو، أحد أعمدة النخبة السياسية الأمريكية، وفاز في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي لمنصب عمدة مدينة نيويورك.
ولم يكن فوز "ممداني" مجرد انتصار انتخابي، بل لحظة فاصلة تُظهر تنامي صوت اليسار التقدمي، وصعود جيل جديد من السياسيين الذين لا يخشون مناهضة المؤسسة أو انتقاد إسرائيل، حتى من قلب الحزب الديمقراطي نفسه.
انتصار يهز أمريكا
ذكرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية وموقع "جلوبز" الإسرائيلي، أن فوز زهران ممداني، البالغ من العمر 33 عامًا، على الحاكم الديمقراطي السابق أندرو كومو، في الانتخابات التمهيدية لاختيار مرشح الحزب لمنصب عمدة نيويورك، بفارق 7%، أذهل مؤسسة الحزب الديمقراطي وخبراء الاستطلاعات على حد سواء، واعتبره مراقبون زلزالًا سياسيًا في المدينة ذات الثقل السياسي والرمزي.
وبحسب البيانات الرسمية بعد فرز نحو 90% من الأصوات، حصل ممداني على 43.5% من الأصوات، مقابل 36.3% لكومو و11.4% للمرشح اليهودي براد لاندر، وأعلن كومو انسحابه من السباق وهنّأ ممداني، قائلًا: "استحق الفوز وأثار حماس الشباب".
من أوغندا إلى نيويورك
وُلد زهران ممداني في العاصمة الأوغندية كمبالا لأب أكاديمي هندي-أوغندي، البروفيسور محمود ممداني، وأم مخرجة أفلام شهيرة هي ميرا ناير، وكلاهما خريجا جامعة هارفارد، وانتقلت العائلة إلى الولايات المتحدة عندما كان في السابعة من عمره، إذ التحق بمدرسة "برونكس للعلوم"، ثم واصل دراسته في كلية "بودوين"، متخصصًا في الدراسات الإفريقية.
وهناك شارك في تأسيس أول فرع جامعي لمنظمة "طلاب من أجل العدالة في فلسطين"، وأظهر التزامًا مبكرًا بالقضايا التقدمية، وعام 2018، أصبح ممداني مواطنًا أمريكيًا متجنسًا، ويعمل والده اليوم في جامعة كولومبيا، بينما تُقيم والدته في نيويورك.
رحلة إلى قبة البرلمان
قبل انخراطه المباشر في السياسة، عمل "ممداني" مستشار إسكان في كوينز، إذ ساعد ذوي الدخل المحدود في مقاومة عمليات الإخلاء، وقال إن التجربة جعلته يُدرك أن "أزمة السكن ليست قدرًا، بل نتيجة قرارات سياسية تخدم الأغنياء".
في عام 2021، انتُخب عضوًا في جمعية ولاية نيويورك، ممثلًا لأحياء متعددة في كوينز، ليصبح أول أوغندي، وثالث مسلم، وأول رجل من جنوب آسيا يتولى المنصب في تاريخ الولاية.
تميّزت حملة ممداني الانتخابية بطابع متعدد الثقافات، عكس تنوع نيويورك وسكانها. استخدم فيديوهات دعائية بلغات مختلفة منها الأردية والإسبانية، ومزج خطابه بصور من أفلام بوليوود، مخاطبًا الجاليات المهاجرة والمهمشة.
وفي تصريح لشبكة "بي بي سي"، قال أحد الناشطين: "لا أحد يمثل مجموع القضايا التي نهتم بها كما يفعل زهران".
البرنامج الانتخابي
وعد "ممداني" بتحويل نيويورك إلى مدينة أكثر عدالة وتكافؤًا، من خلال جعل خدمة الحافلات مجانية في جميع الأحياء، وتجميد الإيجارات ومحاسبة أصحاب العقارات المهملين، وبناء متاجر بقالة مملوكة للبلدية لتوفير الغذاء بأسعار معقولة، وتوفير رعاية أطفال شاملة من عمر 6 أسابيع حتى 5 سنوات، ومضاعفة إنتاج المساكن منخفضة الإيجار بالتعاون مع النقابات، وإصلاح شامل لمكتب العمدة لجعل السكن أولوية دائمة.
وفي إحدى الفعاليات، قال ممداني: "في مدينة ينام فيها نصف مليون طفل جائعًا، لا يمكننا أن نعيش في وهم النمو الاقتصادي. إنها مدينة على وشك فقدان روحها".
بحسب موقع "أكسيوس"، تلقّى "ممداني" دعمًا ماليًا من أكثر من 20 ألف فرد، وبلغت قيمة التبرعات نحو 1.7 مليون دولار، بالمقابل، تلقّى كومو أكثر من 4 ملايين دولار من نحو 5700 متبرع، إضافة إلى دعم سياسي من بيل كلينتون، مايكل بلومبرج، والمؤسسة الحزبية الوسطية.
العداء لإسرائيل
ركز الإعلام الإسرائيلي، خاصة صحيفة "يديعوت أحرنوت"، على مواقف ممداني من إسرائيل، إذ يُعد من أبرز المنتقدين لسياساتها، ويدعو إلى إنهاء الإعفاءات الضريبية للجمعيات المؤيدة للمستوطنات.
كما وصف إسرائيل بأنها "دولة فصل عنصري ترتكب إبادة جماعية في غزة"، مطالبًا باعتقال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وتعرض ممداني لسؤال متكرر بشأن موقفه من "حق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية"، فأجاب: "أنا لا أؤيد أي دولة تُمنح حقوق المواطنة بناءً على الدين".
رغم ذلك، شدّد على أنه يعترف بحق إسرائيل في الوجود كدولة، لكنه دعا إلى التزامها بالقانون الدولي، مؤكدًا أنه سيزيد ميزانية مكافحة جرائم الكراهية حال فوزه.
وديسمبر الماضي، سأل مهدي حسن، المذيع السابق في قناة إم إس إن بي سي، الذي يشغل حاليًا منصب رئيس التحرير والرئيس التنفيذي لشركة زيتيو، ممداني: "سيد البلدية ممداني، هل ترحب بزيارة رئيس الوزراء نتنياهو إلى مدينة نيويورك لأي سبب كان، نظرًا لأن الولايات المتحدة ليست دولة موقعة على المحكمة الجنائية الدولية، لذا يمكنه السفر إلى الولايات المتحدة، على عكس العديد من الدول الأخرى؟، هل يرحب رئيس البلدية ممداني بزيارة بنيامين نتنياهو إلى هذه المدينة؟"، وقال لحسن: "لا. لو كان عمدة مدينة نيويورك، لاعتقل بنيامين نتنياهو. هذه مدينة تتوافق قيمنا فيها مع القانون الدولي. حان الوقت لأن تكون أفعالنا كذلك".
انتقادات ومخاوف
لم تحظَ حملة ممداني بدعم صحيفة "نيويورك تايمز"، التي اعتبرت برنامجه الانتخابي "طوباويًا" ويفتقر إلى الواقعية، محذرة من أن تجميد الإيجارات سيؤدي إلى تقليص المعروض السكني. كما وصف كومو منافسه بأنه "اشتراكي متطرف غير مجرّب"، وقال: "الخبرة مطلوبة عندما تكون تدير مدينة بميزانية 115 مليار دولار و300 ألف موظف".
ويرى محللون أن صعود ممداني يعكس تحوّلًا في مركز الثقل داخل الحزب الديمقراطي، نحو قاعدة شبابية وذات توجهات يسارية، واعتبر الخبير السياسي تريب يانج أن الحملة تمثل "قوة نادرة في السياسة المحلية"، مدعومة بعشرات الآلاف من المتطوعين.
وقال أحد الناخبين: "زهران يشبهنا، هو من مجتمع المهاجرين، وهذا يعني الكثير لنا".
في نوفمبر، سيواجه ممداني ثلاثة مرشحين محتملين، هم العمدة الحالي إريك آدامز، الذي يترشح مستقلًا بعد تبرئته من تهم فساد، والجمهوري كورتيس ساليفا، وربما أندرو كومو كمستقل، لكن، بصرف النظر عن النتيجة، فإن حملة ممداني غيّرت قواعد اللعبة، وأعلنت ميلاد مرحلة جديدة في سياسة نيويورك.