في ذاكرة السينما المصرية، ثمة أسماء لا تمضي، بل تظل شاهدة على عصرها، حاضرة في كل مشهد صادق أو حكاية تحمل نبض الشارع، ومن بين هؤلاء، يقف اسم عاطف الطيب، الذي تحل ذكرى رحيله اليوم، كعلامة فارقة؛ مخرج حمل معه من أعماق صعيد مصر ومن حواري بولاق هموم الناس؛ ليجعل من الكاميرا صوتًا للمهمشين، ومن الشاشة مرآة تعكس معاناة البسطاء وأحلامهم المؤجلة.
لم يكن عاطف الطيب ابنًا لعائلة سينمائية، بل جاء من سوهاج حاملًا أحلامًا تتجاوز حدود قريته، وأقام في حي بولاق الدكرور وامتهن مهنة أسرته في توزيع الألبان؛ حرفة لم يخجل منها يومًا، بل كانت مدرسته الأولى في فهم الناس وقراءة وجوههم، وتلمس حكاياتهم الصغيرة. ومن بين أزقة الحي الشعبي، تشكلت رؤيته عن الإنسان، الوجع، والفقر الحي، فصارت الكاميرا لاحقًا وسيلته لإعادة حكاية هؤلاء.
دراما حقيقية
وترك الطيب أثرًا داخل كل من تعامل معهم في الوسط، فحكى محمد خان عن تجربة جمعته به في مشروع توعوي لتقليل معدلات الإنجاب، وقال: "حاولنا أن نوصل الرسالة بالمقارنة بين أسرتين، إلا عاطف، صنع دراما بصدق، واختار أن يحكي عن طفل واحد يتمنى حذاءً جديدًا للعيد، لكن فقر أسرته يحرمه، يهرب الطفل إلى أمام محل أحذية وينام هناك، مشهد درامي بسيط في أدواته، لكنه بالغ التأثير."
كيمياء الروح
أما السيناريست بشير الديك، فكان يرى في الطيب "مخرجًا شديد القوة"، يؤثر بكادرات بسيطة ولكنها موجعة في صدقها، يخلق واقعية شديدة تلامس المتلقي، فتبدو الأفلام حكايات عن الجار والأخ والصديق، وجاءت صداقتهما مبنية على احترام فكري وروحي.
وبكلمات مؤثرة وصفه قائلًا: "صديق عمري، أكثر إنسان وقف معي يوم فقدت ابني، أكثر من ساندني وأعادني للحياة."
بدايات متأخرة
يحكي مدير التصوير سعيد شيمي عن الطيب قائلًا: "تأخر عاطف في الإخراج، لكن حين استعد لفيلمه الأول (الغيرة القاتلة)، استشارني في القصة، ورغم تحفظي، وافقت حين قال: عايز أقول للناس إني مخرج"، وبعد أيام معدودة، اكتشف شيمي أنه أمام مخرج من طراز نادر، يمتلك إحساسًا بالتفاصيل وحرصًا على الحكاية.
واقعية الثمانينيات
وصفه المخرج محمد فاضل بأنه أحد رموز جيل الواقعية في الثمانينيات، رفقة داوود عبدالسيد ومحمد خان، هذا الجيل الذي أخرج السينما من استوديوهاتها المغلقة إلى الشارع، فصار البطل شخصًا عاديًا، والمكان زقاقًا أو مقهى شعبيًا، والأحداث مستوحاة من هموم المجتمع المتغير تحت وطأة الانفتاح الاقتصادي.
دراما في أغنية
من جهتها، تروي الفنانة أنغام كيف آمن بها الطيب، حين استمع إلى أغنيتها "شنطة سفر"، التي تجاوزت مدتها الثماني دقائق، فرأى فيها فيلمًا قصيرًا مصورًا. دفعت أنغام ثمن إخلاصها للمشروع فباعت سيارتها لتمويل التصوير، إيمانًا بموهبة الرجل الذي لا يصنع الفن من أجل المال فقط، بل ليحكي قصة.