"صوت لا يُشبه أحدًا، ونبرة تنطق الفصحى كما لو أنها خُلقت على لسانه، لم يكن مجرد ممثل بل كان مدرسة في الأداء، وقامة لغوية تتجلى في كل مشهد وكل حرف، صاحب الملامح الهادئة والصوت الرصين، الذي عبر بأدواره من خشبة المسرح إلى عوالم الدراما، تاركًا أثرًا لا يُمحى على كل من سمعه أو رآه".
في ذكرى ميلاده الـ83، يعود اسم أشرف عبدالغفور ليُروى ليس كمجرد فنان رحل، بل كأيقونة فنية وإنسانية، جسّدت المعنى الحقيقي للفن الملتزم، وحملت اللغة العربية على كتفيها في زمن تراجعت فيه الألسنة، فكان الباقي بين السطور والمشاهد، حيًّا بصوته وأدواره، وإن غاب الجسد.
ولد الفنان الراحل في مدينة المحلة الكبرى بمحافظة الغربية عام 1942، وشهدت نشأته الأولى ملامح مبكرة لموهبة ستنضج سريعًا على خشبة المسرح، قبل أن تنطلق إلى آفاق أوسع في السينما والدراما والإذاعة.
العشق الأول
بدأ أشرف عبدالغفور مشواره الفني عام 1962 من بوابة المسرح، من خلال مشاركته في مسرحية "جلفدان هانم"، ليضع قدمه بثبات على أول طريق في رحلة امتدت لعشرات السنين، تألق خلالها في عشرات العروض المسرحية، وصقل من خلالها أدواته الفنية ولغته وحضوره.
المسرح ظل بالنسبة له المُعلم الأول والأوفى، وظلت بصماته فيه ممتدة، حتى بعدما انتقل إلى الشاشة الصغيرة والكبيرة، إذ ظل وفيًا لفن الخشبة بوصفه النبع الأساسي للتكوين الفني والانضباط التعبيري.
صوت العربية
كان إتقان "عبدالغفور" للغة العربية ومخارج الحروف بدقة أكاديمية، أحد أهم أسباب تألقه في الأعمال التاريخية والدينية، وهي المنطقة التي برع فيها باقتدار. وفي أحد حواراته التلفزيونية، كشف أنه شارك في أكثر من مائة عمل من هذا النوع، نسبة نادرة في سجل أي فنان.
ومن أبرز أعماله الخالدة في هذا المجال، مسلسلات "محمد رسول الله"، و"أسماء الله الحسنى"، و"عظماء في التاريخ"، و"الإمام مالك"، و"هارون الرشيد"، و"الأئمة الأربعة"، و"القضاء في الإسلام"، و"الليالي المحمدية"، وغيرها من المسلسلات التي شكلت وجدان أجيال كاملة، وربطت الجمهور العربي بتاريخ الإسلام وشخصياته المؤثرة.
في مسلسل "سليمان الحكيم"، قدّم عبدالغفور واحدًا من أدواره المتميزة، بمشاركة كوكبة من النجوم مثل سوسن بدر وأحمد ماهر، وكان العمل من إخراج دعاء صلاح، وسيناريو محمد هلال البيلي.
أما في "الإمام الغزالي"، فجسد شخصية الشيخ الطوسي في سياق درامي تناول فترة حكم السلاجقة ونشأة الإمام الغزالي، وكان من إخراج إبراهيم الشوادي وتأليف محمد السيد عيد.
في مسلسل "عمر بن عبدالعزيز"، شارك عبدالغفور في بطولة العمل إلى جانب الراحل نور الشريف، مجسدًا شخصية الوليد بن عبدالملك، بينما أدى شخصية شرف الدين بن تيمية في مسلسل "ابن تيمية" مع عبدالله غيث، في عمل شارك فيه أيضًا حمدي غيث وأمينة رزق وتوفيق الدقن.
وجسّد في مسلسل "هارون الرشيد" شخصية موسى الهادي، إلى جانب نخبة من الفنانين، أبرزهم نور الشريف، عبلة كامل، ومحمود الجندي، في عمل كتبه عبدالسلام أمين وأخرجه أحمد توفيق.
حضور بالدراما الاجتماعية
إلى جانب تميزه في الدراما الدينية، كان لأشرف عبدالغفور حضور لافت في الدراما الاجتماعية، التي ناقشت قضايا حقيقية من قلب المجتمع المصري. فقد شارك في مسلسلات مهمة، منها "حضرة المتهم أبي" مع نور الشريف، و"فارس بلا جواد"، و"حمادة عزو"، و"القاهرة والناس"، و"حسابي مع الأيام"، وهي أعمال تنوعت بين النقد الاجتماعي والطرح الإنساني.
بأداء رصين وبصوت هادئ يحترم عقل المشاهد، استطاع أن يمنح كل شخصية يجسدها عمقًا خاصًا، حتى وإن لم تكن البطولة المطلقة، فكان دائمًا الحضور رغم قلة الكلمات.
الرحيل الصادم
في الثالث من ديسمبر 2023، فقد الوسط الفني أحد أبرز أعمدته برحيل أشرف عبدالغفور إثر حادث سير على طريق إسكندرية الصحراوي، نجا منه أفراد أسرته، لكن بقيت صدمته قائمة، خاصة أنه ظل حتى أيامه الأخيرة حاضرًا في المشهد محتفظًا برصانته وحكمته.
وبرحيله خسر الفن المصري والعربي ممثلًا كبيرًا بصوت مثقّف، ووجه هادئ، وموهبة لم تخفت، وشخصية احترمت المهنة وجمهورها، وآمنت بأن الفن رسالة لا تُختزل في الشهرة، بل في الصدق والبقاء.