في الوقت الذي يفتح الذكاء الاصطناعي آفاقًا غير مسبوقة، بالمقابل تتصاعد مخاوف من تحوّله إلى أداة لطمس الهوية الفنية وتزييف التاريخ والعبث بتراث الإنسانية والفن الأصيل، ومع ازدياد حالات استخدام صوت وصورة رموز الغناء العربي من الراحلين، دون إذن أسرهم، تبدو الساحة مهيأة لصدام محتدم، "فهل يُعيدنا الذكاء الاصطناعي إلى زمن النجوم ليكونوا بيننا من جديد بالصوت والصورة، أم يعبث بتراثهم ويشوه صورتهم في الذاكرة؟".
"كوكب الشرق" تغني لويجز
قبل شهر اندلعت موجة واسعة من الجدل بعد تداول فيديو تُغني فيه أم كلثوم، باستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي، إحدى أغنيات مغني الراب المصري "ويجز"، الفيديو المفبرك لم يكن مجرد تجربة فنية عابرة، بل مثّل انتهاكًا صريحًا لتراث صوتي نادر، وفتح الباب أمام تساؤلات قانونية وأخلاقية لا تزال بلا إجابة واضحة.
وبحسب بيان رسمي، أعربت أسرة أم كلثوم عن غضبها الشديد، مؤكدة أنها "لن تسمح بطمس الهوية الغنائية التي تميزت بها كوكب الشرق على مدار تاريخها".
وأوضحت الأسرة أن "أم كلثوم قدّمت لونًا فنيًا أصيلًا تفرّدت به، ومن غير المقبول أن يتم تزييف هذا الإرث العظيم بأعمال مفبركة تُقحمها في ألوان غنائية لا تمثلها"، مهددة باللجوء إلى القضاء.
أزمة جديدة
لم تهدأ عاصفة أم كلثوم، حتى اشتعلت أزمة جديدة مع اقتراب موعد إقامة مهرجان "موازين" في دورته الـ19، بعد أن روّج البعض لعرض مرتقب بتقنية "الهولوجرام" يُجسد الفنان عبدالحليم حافظ، إذ يظهر بالصوت والصورة، لكن أسرته سرعان ما أصدرت بيانًا نفت فيه علمها بأي اتفاق بهذا الشأن.
وقالت أسرة العندليب في بيان رسمي لها: "وصل إلى علم عائلة الفنان الراحل عبدالحليم حافظ أن هناك إعلانات متداولة تُوحي بإقامة عرض يخصه بتقنية الهولوجرام، دون أن يتم التواصل معنا أو توقيع أي اتفاق رسمي بهذا الخصوص".
وأضافت: "جميع الحقوق المرتبطة باسم وصورة عبدالحليم محفوظة حصريًا لشركة تم التعاقد معها رسميًا، وأي استخدام آخر يُعد خرقًا قانونيًا يُعرض مرتكبيه للمساءلة".
وهذه الوقائع ما هي إلا نماذج لقصص كثيرة تم العبث فيها بتراث نجوم الزمن الجميل، في موسم رمضان الماضي، استخدمت صورة الفنانة سعاد حسني في إعلان لأحد البنوك، وسط مطالبات بوضع ضوابط للحفاظ على التراث الفني وصورة رموزه من التشويه أو التحريف.
شادي مؤنس: "تراثنا ليس مادة للتجريب أو التشويه"
من جانبه، أعرب الموسيقار شادي مؤنس عن رفضه القاطع لاستخدام الذكاء الاصطناعي في إعادة إحياء أصوات النجوم الراحلين، مؤكدًا أن الأمر لا يخص الورثة فقط، بل مسألة أخلاقية وفنية تتعلق بجوهر الإبداع.
وقال مؤنس في تصريحات لموقع "القاهرة الإخبارية: "ليس من حق أحد استخدام صوت وصورة الفنان بعد وفاته، حتى لو وافق الورثة، هذه الأعمال قد تفرز أفكارًا مشوهة تضر بالرموز وتسيء لتراثنا الفني، فالوحيد الذي يملك حق الموافقة الفنان نفسه وبرحيله أعتقد أنه لا يُسمح لأحد أن يوافق على استخدام تراثه من خلال الذكاء الاصطناعي لأنه في بعض الأحيان قد يشوه أعماله".
وتابع مؤنس: "أعمال النجوم ترتبط في أذهاننا بحالة خاصة فهي تحمل نوستالجيا محفورة في وجداننا، تزييفها يُفقدها روحها ويعبث بأذن المستمع، وأنا شخصيًا، لا أقبل أن يتم استخدام أو تعديل أي من أعمالي بعد وفاتي".
وأشار إلى غياب الأطر القانونية الواضحة في مواجهة هذا التطور المتسارع، قائلًا: "نحن نواجه طفرة تقنية مخيفة تتجاوز قدرة التشريعات الحالية، من الصعب مواكبة كل المستجدات فلا بد من سن تشريعات وقوانين مناسبة للتطور الذي نشهده".
طارق الشناوي: انتهاك يمس التراث والهوية ولا بد من حمايته
الناقد الفني طارق الشناوي قدّم رؤية شاملة للجدل الدائر، معتبرًا أن ظهور وسائط جديدة طالما صاحبه صدامات قانونية وفكرية، إذ يقول لموقع "القاهرة الإخبارية": "كما حدث مع الفيديو الذي أثار جدلًا عند ظهوره مقارنة بالأسطوانة والنسخ دون الحصول على إذن مسبق من أصحابها، نواجه اليوم أزمة جديدة مع تقنيات الهولوجرام والذكاء الاصطناعي، هذه الوسائط تُحدث صدمة أولى، ثم تفرض نفسها، ولذا لا بد من تشريعات مواكبة".
وأضاف: "الأمر لا يقتصر على استحضار الراحلين، بل يمتد إلى الأحياء، ربما نشاهد قريبًا فيروز على المسرح دون أن تغادر منزلها".
وشدّد الشناوي على ضرورة سن تشريعات جديدة للحفاظ وحماية التراث، إذ يقول: "الذكاء الاصطناعي يتطور بوتيرة سريعة تفوق توقعاتنا، وإذا لم نتحرك لحماية الحقوق الأدبية والمادية، سنجد أنفسنا أمام واقع مفروض لا رجعة فيه، الانتهاك يمس الوجدان والتراث والهوية والتاريخ".