رغم الخلافات الروسية الأوروبية على مدى القرن الماضي، والتي عرفت باسم "الحرب الباردة"، والتي عادت بشكل كبير منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية قبل ثلاثة أعوام، انتشرت الموسيقى الروسية في مسارح أوروبا، واحتلت مكانة مميزة في أكبر قاعات الحفلات الموسيقية.
هكذا، أصبح قادة الأوركسترا ومغنيات السوبرانو الساحرات هم السفراء الرائدين للقوة الناعمة الروسية. حتى عندما سقط الاتحاد السوفييتي، ظلت الأوبرا والباليه الروسية تتمتع بمكانة مقدسة في أوروبا؛ وكذلك الحال بعد ضم موسكو لشبه جزيرة القرم في عام 2014.
وعند اندلاع الحرب مع أوكرانيا، حاولت دول أوروبا إظهار التضامن مع كييف عبر إلغاء الحفلات الموسيقية الكلاسيكية الروسية، وتوقف عن تقديم أعمال شهيرة مثل "كسارة البندق" و"بحيرة البجع"، مع الابتعاد عن عن الفنانين الذين تربطهم علاقات علنية بالرئيس فلاديمير بوتين.
تشير النسخة الأوروبية لصحيفة "بوليتيكو" إلى أنه بعد ثلاث سنوات، يعود بعضٌ من ألمع نجوم روسيا بهدوء إلى الفرق الموسيقية والمسارح في جميع أنحاء أوروبا. تقول: "يُعدّ هذا انتصارًا لموسكو، في الوقت الذي يقول فيه النقاد إن موسكو تأمل في إنهاء عزلتها العالمية باستخدام الفن والثقافة الروسية الرفيعة كسلاحٍ للقوة الناعمة".
وفي مواجهة العائدين الروس، تدعو أوكرانيا دور الأوبرا ومؤسسات المسرح المرموقة في القارة الأوروبية إلى التمسك بالموقف ضد موسكو. حيث أكد وزير الثقافة الأوكراني، ميكولا توتشيتسكي، إن المشهد الفني في أوروبا يجب أن "يفكر مرتين" قبل الترحيب بالفنانين الروس مرة أخرى.
ووصف توتشيتسكي إعادة دمج الثقافة الروسية في أوروبا بأنها "محفوفة بالمخاطر". زاعمًا أنه "عندما يكون هناك نشاط ثقافي روسي نشط في بلدك، فإن الأمر يتعلق فورًا بنشر معلومات مضللة والتحضير لنوع من العدوان. هذه تجربتنا الخاصة ".
ونقلت "بوليتيكو" عن مفوض الثقافة الأوروبي جلين ميكاليف اتفاقه مع هذا الرأي، وقال: "لا ينبغي للمسارح الأوروبية أن تمنح أي مساحة للذين يدعمون هذه الحرب العدوانية ضد أوكرانيا".
هيمنة الروس
في عام 2008، أقام فاليري جيرجيف، أحد أشهر قادة الأوركسترا في روسيا، حفلاً دعائيًا في مدينة "تسخينفالي"، عاصمة منطقة "أوسيتيا" الجنوبية المنفصلة عن جورجيا، والتي استولى عليها الانفصاليون المدعومون من موسكو.
وبينما كان الجمهور يلوح بالأعلام الروسية والأوسيتية، قاد جيرجيف سيمفونية "لينينجراد"، وهي عمل وطني شعبي ورمز للمقاومة ضد الفاشية. لاحقًا، شارك في حملة إعلانية تلفزيونية لصالح بوتين عام 2012، مشيدًا بقيادة الرئيس الروسي، ووقّع على رسالة مفتوحة تدعم ضم الكرملين لشبه جزيرة القرم عام 2014.
وبعد اندلاع الحرب مع أوكرانيا في 2022، تجاهلت فرق أوركسترا ومسارح مختلفة جيرجيف، من ميلانو وميونيخ إلى روتردام وفيينا، بينما أقام حفلات موسيقية في الصين وإيران. لكن هذا على وشك أن يتغير، حيث من المقرر أن يقدم عددًا من العروض في برشلونة العام المقبل مع أوركسترا "ماريانسكي" الروسية كجزء من سلسلة حفلات "إيبيركاميرا"، التي تدرج صندوق الجيل القادم التابع للاتحاد الأوروبي كداعم مالي.
في الوقت نفسه، استهجن المشهد الفني في أوكرانيا التخفيف التدريجي لموقف الثقافة الأوروبية الراقية تجاه روسيا، حيث يرون أن موسكو تستغل ذلك لإضفاء الشرعية. لذلك، اقترح وزير الثقافة الأوكراني حلاً "يجب على شركات المسرح الأوروبية توظيف فنانين أوكرانيين أو أوروبيين بدلاً من الروس".
وقال توتشيتسكي: "في أوكرانيا، وبولندا، والسويد، لدينا فنانون بنفس الجودة، بل وأحيانًا أفضل. فلنُشجّع الذين يُشاركوننا القيم الديمقراطية حقًا".
قنابل وباليه
في أبريل، تجمع مئات المتظاهرين حول مسرح في مدينة "براتسلافا" النمساوية، ولوحوا بالأعلام الأوكرانية ورفعوا صوراً للمدن الأوكرانية التي تعرضت للقصف، خلال الاحتجاج على حفل للمغنية الروسية آنا نتريبكو، وهي مغنية سوبرانو وصفتها "بوليتيكو" بأنها "محبوبة عالم الأوبرا"، وكانت مؤيدة للرئيس بوتين، رغم تأكيدها أنها لا تتدخل في السياسة.
وكانت دور الأوبرا المرموقة، من نيويورك إلى لندن، عن نيتريبكو، التي تدربت على يد جيرجيف في بداية مسيرتها المهنية واحتفلت بعيد ميلادها الخمسين عام 2021 بحفل موسيقي متلفز في قصر الكرملين، تخلت عن نتريبكو بعد فبراير 2022، حيث توقفت عن الغناء لأشهر، كما فرضت عليها كييف عقوبات عام 2023.
لكن الستار ارتفع مرة أخرى على مسيرة نيتريبكو، حيث أقيم أول عرض لها في الولايات المتحدة في دار أوبرا "بالم بيتش" بولاية فلوريدا في فبراير من هذا العام، وسيكون أداؤها لأوبرا "توسكا" لبوتشيني في دار الأوبرا الملكية بلندن في سبتمبر أول عرض لها في هذا المكان المهيب منذ ما قبل الحرب.
وفي الواقع، نجد أن جدول أعمالها للأشهر الثمانية عشر القادمة حافل بالعروض في أوروبا، من برلين إلى زيورخ.