يشهد الدعم الأوروبي لإسرائيل تراجعًا حادًا، وصل إلى أدنى مستوياته التاريخية، وسط تصاعد الانتقادات من حلفائها التقليديين في أوروبا بعد أكثر من 20 شهرًا من العدوان المتواصل على قطاع غزة. في هذا الصدد، ذكرت وكالة "بلومبرج" وصحيفة "ذا جارديان" البريطانية أن هناك تحولًا جذريًا في الرأي العام والمواقف الرسمية الأوروبية، إذ باتت دول مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تدرس فرض قيود تجارية وحظر تصدير الأسلحة لإسرائيل.
انهيار في استطلاعات الرأي الأوروبية
كشفت استطلاعات حديثة أجرتها مؤسسة "يوجوف" البريطانية عن تراجع مدوٍّ في التأييد الشعبي لإسرائيل عبر القارة الأوروبية.
وبحسب "ذا جارديان"، وصلت نسبة التأييد السلبي لإسرائيل إلى 44% في ألمانيا، و48% في فرنسا، و54% في الدنمارك، و52% في إيطاليا، و55% في إسبانيا، و46% في بريطانيا، وهي أدنى المستويات المسجلة منذ بدء هذه الاستطلاعات في عام 2016.
وأظهرت النتائج أن ما بين 13% و21% فقط من المواطنين الأوروبيين يحملون رأيًا إيجابيًا عن إسرائيل، مقابل 63%–70% لديهم آراء سلبية.
كما اتفق ما بين 6% في إيطاليا و16% في فرنسا فقط على أن إسرائيل "كانت محقة في إرسال قوات إلى غزة وقد ردت بشكل متناسب على هجمات حماس"، بينما يعتقد ما بين 29% في إيطاليا و40% في ألمانيا أن إسرائيل "محقة في إرسال قوات لغزة، لكنها تجاوزت الحد وتسببت في خسائر مدنية مفرطة".
ألمانيا تكسر صمتها التاريخي
في تطور مفاجئ يعكس حجم التحول الأوروبي، انضمت ألمانيا، التي تعتبر حماية إسرائيل التزامًا أخلاقيًا بسبب المحرقة، إلى قائمة الدول المنتقدة للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
وذكرت وكالة "بلومبرج" أن المستشار الألماني فريدريش ميرز أدلى بأول تعليقات رسمية ألمانية منتقدة منذ بدء الحرب، قائلًا إن الوضع الإنساني في غزة "لا يمكن تبريره بالقتال ضد إرهاب حماس".
وأشارت "بلومبرج" إلى أن الغضب الألماني تصاعد عندما كثف جيش الاحتلال الإسرائيلي عملياته العسكرية في منتصف مايو واستمر في منع وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة.
وخلال محادثة هاتفية مع نتنياهو يوم الأحد، طالب ميرز بـ"ضرورة السماح بدخول مساعدات إنسانية كافية إلى قطاع غزة فورًا"، كما أعلنت ألمانيا، إحدى أكبر موردي الأسلحة لإسرائيل، أنها تدرس فرض قيود على الصادرات العسكرية.
دعوات متزايدة للعقوبات
تتصاعد الضغوط الأوروبية لفرض عقوبات شاملة على إسرائيل، إذ أوضحت "بلومبرج" أن المملكة المتحدة وهولندا وفرنسا بدأت جديًا في دراسة فرض قيود تجارية وحظر تصدير الأسلحة لإنهاء الصراع الذي دمّر معظم قطاع غزة وأثار أزمة جوع حقيقية وفقًا لوكالات الإغاثة الدولية.
وأعلنت بريطانيا بالفعل عن تعليق محادثات التجارة الحرة مع إسرائيل وفرض عقوبات على أفراد وكيانات متهمة بممارسة العنف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية.
وقالت كايا كالاس، مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، إن هناك "أغلبية قوية" تؤيد مراجعة الاتفاقية التجارية مع إسرائيل.
هذا التطور مهم بشكل خاص؛ لأن الاتحاد الأوروبي يُعتبر أكبر شريك تجاري لإسرائيل بحجم تبادل تجاري يبلغ 47 مليار دولار سنويًا، وفقًا لصندوق النقد الدولي، مما يعني أن أي تغيير في السياسة سيكون له تأثير ملموس على الاقتصاد الإسرائيلي المتوتر بالفعل بسبب الحرب.
فرنسا تقود المبادرات الدبلوماسية
تتصدر فرنسا، التي تضم أكبر الجاليات اليهودية والمسلمة في أوروبا، الجهود الأوروبية لحشد الدعم الدولي لقيام دولة فلسطينية.
وبحسب "بلومبرج"، حذّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من أن "أوروبا ستضطر لتشديد موقفها الجماعي تجاه إسرائيل ما لم يتحسن الوضع في غزة قريبًا".
وأصدرت فرنسا مع بريطانيا وكندا بيانًا مشتركًا في 19 مايو قالت فيه: "مستوى المعاناة الإنسانية في غزة لا يُطاق، ولن نقف مكتوفي الأيدي بينما تواصل حكومة نتنياهو هذه الأعمال الشنيعة".
وكشف استطلاع رأي أجرته مؤسسة "أودوكسا" عن أن الشعب الفرنسي يدعم بقوة هذا التوجه، حيث يؤيد ما يقرب من ثلثي الفرنسيين قيام دولة فلسطينية، بينما يدعم 61% منهم فرض عقوبات سياسية واقتصادية على إسرائيل. والمثير للاهتمام أن معدل تأييد ماكرون ارتفع بشكل كبير بسبب تغيير موقفه من الوضع في غزة، مما يعكس الرأي العام الفرنسي.
أرقام مأساوية تؤجج الغضب الشعبي
تُشير الأرقام الواردة في تقارير وزارة الصحة بقطاع غزة إلى حجم المأساة الإنسانية في غزة، إذ استُشهد أكثر من 54 ألف فلسطيني منذ بدء العدوان الإسرائيلي في السابع من أكتوبر 2023.
وبحسب "ذا جارديان"، فإن صور الأطفال الجوعى والمصابين، والأراضي المحولة إلى أنقاض، انتشرت عبر النشرات الإخبارية ووسائل التواصل الاجتماعي؛ مما كثف الاحتجاجات الشعبية في أوروبا وزاد الضغط على إسرائيل. ففي هولندا وحدها، شهدت البلاد الشهر الماضي واحدة من أكبر المظاهرات منذ سنوات، حيث نزل عشرات الآلاف إلى الشوارع مطالبين بوقف الحرب.
تحديات التوافق الأوروبي
رغم تزايد الانتقادات والضغوط، تواجه القارة العجوز تحديات كبيرة في تحقيق إجماع حول فرض عقوبات فعلية على إسرائيل.
وأشارت "بلومبرج" إلى أن عقوبات الاتحاد الأوروبي قد تواجه معارضة من دول مثل المجر، كما أن أي إجراءات لقطع صادرات الأسلحة قد تضر بشركات الدفاع الأوروبية وتخاطر بإجراءات انتقامية من إسرائيل التي تبيع معدات الدفاع الجوي والعسكرية لأوروبا.
ومع ذلك، يرى جوليان بارنز-داسي، مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، أن التعليقات الألمانية تشكل "علامة حقيقية" على مدى التحول الحاصل في المواقف الأوروبية.
لكنه أضاف لـ"بلومبرج" أن "الأوروبيين سيحتاجون لدعم بياناتهم الإدانة بخطوات مادية حقيقية إذا كانوا يريدون أن يؤخذوا على محمل الجد، وإذا كانوا يسعون حقًا لتغيير المواقف الإسرائيلية".