في عام 1977، بعد وقت قصير من وصول مناحم بيجن إلى رأس السلطة الإسرائيلية، دعا رئيس "الموساد" آنذاك، إسحاق حوفي، إلى زيارته للحديث حول آخر المستجدات.
وقتها، تناول "حوفي" مع رئيس الوزراء الأهداف الرئيسية للموساد، على غرار متابعة تسليح الدول العربية، وحالة جيوشها، والتعامل مع المنظمات الفلسطينية.
وسمع بيجن حديث "حوفي" ثم تساءل بغضب: "ماذا عن ملاحقة مجرمي الحرب النازيين؟"، خاصة وأن العديد منهم لا يزالون على قيد الحياة في ذلك الوقت.
في ذلك الوقت، كان هذا الأمر في أسفل سلّم أولويات الموساد في العقد الذي سبق ذلك، لكن بيجن أمر الاستخبارات الإسرائيلية بإعادة القبض على النازيين، وإذا لزم الأمر، اغتيالهم أيضًا، إلى رأس قائمة الأولويات. عندها، شرع حوفي في تأسيس وحدة داخل قسم العمليات الخاصة للموساد للقبض على النازيين.
وقام أعضاء الوحدة بتجميع قائمة بالنازيين المطلوبين، كان منهم: والتر راوف، مطوّر شاحنة الغاز؛ فرانتز راديماخر، رئيس المكتب اليهودي بوزارة الخارجية الألمانية؛ كلاوس باربي المعروف باسم "جزار ليون"، الذي شغل منصب نائب قائد الشرطة النازية في المدينة؛ كورت ليشكي، رئيس شرطة النازية "الجستابو" في باريس؛ وبالطبع، على رأس القائمة، الدكتور جوزيف منجيل، الطبيب سيئ السمعة من معتقل "أوشفيتز" الشهير.
صديق النازيين
وفق الوثائق التي نشرتها مؤخرًا صحيفة "يديعوت أحرونوت"، كانت المعلومات حول النازيين المطلوبين مربكة، كان بعضهم يعيشون في ألمانيا أو النمسا، وهي دول صديقة لإسرائيل، وكان اختطافهم أو اغتيالهم على أراضيها بمثابة كارثة دبلوماسية. كما عاش أحد النازيين، وهو ألويس برونر، في سوريا، بينما عاش الباقون في بلدان بأمريكا الجنوبية، ولكن لم تكن هناك سوى معلومات استخباراتية قليلة عن أيٍّ منهم.
وأدركت وحدة الرسائل أن لديها فجوة استخباراتية ضخمة تحتاج إلى سدّها، وهو ما دفعها للاستعانة بصحفي ألماني مشهور جدًا، هو جيرارد هايدمان، الصحفي بمجلة "شتيرن"، الذي جنده الموساد، وكان دافعه الرئيسي هو المال، لأنه كان دائمًا غارقًا في مشاكل مالية.
ويشير التقرير إلى أنه رغم ضآلة أهميته كعميل، تمتع هايدمان بعلاقات وثيقة مع القادة النازيين الهاربين، وُلدت على متن يخت فاخر له ماضٍ مظلم، إذ كان في السابق ملكًا لهيرمان جورينج، قائد القوات الجوية الألمانية، وثاني أهم شخص في الرايخ الثالث، وكان يُطلق عليه اسم "كارين الثانية".
كان اليخت وسيلة هايدمان للاقتراب من المسؤولين النازيين، وكان أهمهم الجنرال كارل وولف من قوات الأمن الخاصة، الذي قررت إسرائيل عدم ملاحقته مقابل مشاركة الصحفي الألماني رحلته إلى أمريكا الجنوبية لملاحقة النازيين الهاربين، وهي مهمة موّلتها الاستخبارات الإسرائيلية.
استعد هايدمان للسفر إلى تشيلي وبوليفيا وباراجواي والأرجنتين، للقاء كلاوس باربي، ووالتر راوف، وجوزيف منجيل، من بين آخرين على رأس قائمة المطلوبين لدى الموساد، تحت ستار المقابلات الصحفية، بينما كان يجمع معلومات استخباراتية عنهم.
ولفتت "يديعوت أحرونوت" إلى أن "باربي وراوف كانا هدفًا للموساد في حد ذاتهما، لكن كان من المفترض أيضًا أن يكونا بمثابة قنوات للوصول إلى الهدف الرئيسي لإسرائيل، الدكتور منجيل".
بحث محموم
في يونيو 1979، تلقى هايدمان ومساعدوه تمويلًا سخيًا من الموساد لتنفيذ مهمته، إلا أن الصحفي الألماني كانت لديه خطة أخرى للربح، تتمثل في تسجيل المقابلات مع كبار المسؤولين النازيين، ومن ثم نشرها في كتاب، عندما تنتهي العملية مع الموساد.
واصل هايدمان، برفقة وولف، السفر حول أمريكا الجنوبية، حيث أجروا مقابلات مع 18 من كبار المسؤولين النازيين، في محاولة للحصول على معلومات استخباراتية منهم، لكن هذه العملية التي قام بها الموساد لم تُسفر عن أي إنجازات كبيرة.
كانت المحطة الأولى التي توقف فيها وولف وهايدمان في عملهما في تشيلي، حيث التقيا والتر راوف، الذي حُفر اسمه في كتب التاريخ؛ بسبب الإشراف على تطوير شاحنات الغاز في مصانع "جاوبشاتز" في برلين، وهو "الحل" الذي كان يهدف إلى استبدال حُفَر القتل والإعدامات رميًا بالرصاص.
وفي منزله بسانتياجو، حكى المسؤول النازي السابق عن القبض عليه عندما حرر الحلفاء إيطاليا، ونجاحه في الفرار من معسكر أسرى الحرب في ديسمبر 1946، ، متنقلًا بين أماكن الاختباء حتى وصل مع عائلته إلى سوريا في نهاية عام 1948، التي كانت -آنذاك- ملاذًا لكثير من النازيين الهاربين.
بعد تولي حسني الزعيم السلطة في سوريا في مارس 1949، تقلد راوف منصبًا رفيعًا في جهاز الأمن السوري، وشارك في المواجهة مع إسرائيل، وكذلك في تطوير أساليب الاستجواب والاستخبارات ضد المشتبه في معارضتهم للنظام.
وحسب "يديعوت أحرونوت"، هناك شيء لم يُفصح عنه راوف خلال حديثه مع هايدمان، وهو أنه في مرحلة ما كان هو نفسه عميلًا لإسرائيل، ففي صيف عام 1949 -قبل إنشاء الموساد- أجرت الاستخبارات الإسرائيلية اتصالات معه أثناء زيارته إلى روما، حيث كان الإسرائيليون يتلقون منه معلومات عمّا يجري داخل النظام السوري.
وفي نهاية عام 1949، حدث تغيير آخر في الحكومة في سوريا، فبحث راوف عن ملجأ جديد، ووصل إلى سانتياجو وأقام هناك، وبدأ بمساعدة العديد من رفاقه في قوات الأمن الخاصة في العثور على ملاذٍ في تشيلي.
في باراجواي، محطتهم التالية، التقيا بهانس أولريش رودل، وهو طيار أسطوري في سلاح الجو الألماني، وكانا يأملان أن يكون لديه معلومات عن منجيل، لكنهما كانا مخطئين، ثم واصلا رحلتهما إلى الأرجنتين وبوليفيا. وهناك، في لاباز، التقيا بأحد أهم أهداف الموساد، كلاوس باربي، المعروف بـ"جزار ليون".
وبحسب التقرير الذي وصف المشهد الدرامي، ظل "جزار ليون" هادئًا رغم الحادثة، وفي محادثة مع هايدمان في مطعم المحطة بعد ذلك بوقت قصير، قال: "كما تعلم، يا سيد هايدمان، لا أصدق القصص التي تتحدث عن تعرض ستة ملايين يهودي للغاز، لكنني آسف لكل يهودي لم أقتله".
فشل ذريع
أخطأ الموساد منجيل عدة مرات، ولم يتم الكشف إلا في وقت لاحق عن وفاته في البرازيل؛ بسبب نوبة قلبية أثناء السباحة في البحر عام 1979 -قبل بضعة أشهر من رحلة هايدمان– بينما توفي والتر راوف في تشيلي نتيجة نوبة قلبية عام 1984؛ كما توفي كارل وولف أيضًا في عام 1984، بعد اعتناقه الإسلام قبل بضعة أسابيع من وفاته؛ وأُلقي القبض على كلاوس باربي عام 1983، وتم ترحيله إلى فرنسا، ثم قُدِّم إلى محاكمة حظيت بتغطية إعلامية واسعة عام 1987، وأُدين وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة، وتوفي بالسرطان عام 1997.
وفي عام 1983، جاء هايدمان إلى مجلة "شتيرن" حاملًا معه أهم ما في حياته، ما قال إنه "مذكرات هتلر المفقودة"، حيث قام ببيع حقوق المذكرات وقصة الحصول عليها بمبلغ ضخم بلغ عشرة ملايين مارك، وبدأت المجلة في نشر "مذكرات هتلر" وسط ضجة كبيرة، لكن سرعان ما أصبح واضحًا أن هذه كانت عملية احتيال ضخمة، فتم فصله من منصبه بشكل مخزٍ، وتمت محاكمته بتهمة الاحتيال، وسُجن لمدة أربع سنوات ونصف السنة.
توفي هايدمان في هامبورج في ديسمبر الماضي، عن عمر ناهز 93 عامًا، دون أن يتم نشر المقابلات التي أجراها لصالح الموساد مع بعض أكثر الأشخاص وحشية في التاريخ، وقد ترك خلفه حوالي 800 شريط، و7300 مجلد، و100 ألف صورة فوتوغرافية. وفي الوقت الحالي، تتولى مؤسسة "هوفر" في جامعة "ستانفورد" في الولايات المتحدة تحميل بعض هذه الوثائق والتسجيلات النادرة على الإنترنت. بالطبع، سوف تمر سنوات قبل أن يتم تحليل كل هذه المواد والبحث فيها، ولكن ربما يتبين أن هايدمان ترك في إرثه أكثر من مجرد خدعة صحفية حول مذكرات هتلر، وعملية يائسة للموساد للقبض على آخر المجرمين النازيين.