حقّق مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) لعقود طويلة مع بعض الأساتذة والطلاب الصينيين المشتبه في استغلالهم دراساتهم للتجسس سرًا لصالح بلدهم، ليأتي قرار وزارة الخارجية الأمريكية الأسبوع الماضي بإلغاء تأشيرات بعض الطلاب الجامعيين الصينيين، تطبيقًا لرؤية الرئيس دونالد ترامب بأنهم مجرد جواسيس، بمثابة محاولة قاسية لحل مشكلة أكثر تعقيدًا، وخاصة لبعض صائدي الجواسيس السابقين.
وفي إعلانه عن إلغاء تأشيرات الطلاب الصينيين في وقت متأخر من الأربعاء الماضي، لم يقدم وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو سوى القليل من التفاصيل، حيث أوضح فقط أن الحكومة الأمريكية "ستلغي بشكل عدواني التأشيرات للطلاب الصينيين، بما في ذلك الذين لديهم صلات بالحزب الشيوعي الصيني أو يدرسون في مجالات حيوية".
وبينما لم تتضح بعد كيفية تطبيق المعيار المبهم، لكن هذا التوجيه جزء من حملة واسعة النطاق تشنّها إدارة ترامب لفرض تغييرات جذرية في التعليم العالي الأمريكي.
ويخشى خبراء أن يضرّ القرار بالبحث العلمي الأمريكي أكثر مما ينفعه؛ كما ذكر تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز"؛ التي نقلت عن مسؤولين في إدارة ترامب أن الجامعات تمر بأزمة، وأن الحكومة الفيدرالية وحدها هي الراغبة والقادرة على حل هذه المشكلات.
وذكر كبير مستشاري البيت الأبيض، ستيفن ميلر، أمس الجمعة: "لن نمنح تأشيرات للأفراد المعرضين لخطر التورط في أي شكل من أشكال السلوك الخبيث في الولايات المتحدة، الذي يشمل بالطبع التجسس، وسرقة الأسرار التجارية، وسرقة التكنولوجيا، أو أي أعمال أخرى من شأنها الإضرار بأمن قاعدتنا الصناعية".
في المقابل، أوضح جريج ميلونوفيتش، وهو عميل سابق في مكتب التحقيقات الفيدرالي، أدار لسنوات برنامج التحالف الأكاديمي التابع لقسم مكافحة التجسس، أن "العدد الإجمالي لطلاب جمهورية الصين الشعبية الذين يشكلون في الواقع نوعًا من المخاطر على الأمن القومي منخفض نسبيًا مقارنة بعدد الطلاب الذين سيستمرون في دعم وتعزيز الأبحاث الأمريكية".
أعداد هائلة
العام الماضي، التحق نحو 277 ألف طالب صيني بالولايات المتحدة، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد الهند في عدد الطلاب.
وطالما واجهت السلطات الفيدرالية تحديًا يتمثل في منع هذا العدد الكبير من نقل التكنولوجيا أو الخبرات الحيوية خلسةً إلى شركات صينية أو مسؤولين حكوميين.
وينقل التقرير عن ميلونوفيتش أن المسؤولين الأمريكيين كانوا قلقين منذ فترة طويلة بشأن المخاطر التي يشكلها بعض الطلاب الصينيين، لكن التحرك الأخير للإدارة من شأنه في نهاية المطاف أن يضر بتقدم التكنولوجيا الأمريكية.
وقال إن بعض الطلاب يصلون إلى الولايات المتحدة ولديهم ارتباطات مسبقة بالحكومة الصينية ووكالات الاستخبارات بينما "يتم الاتصال بالعديد من الآخرين أو تجنيدهم أو استقطابهم أثناء وجودهم في الولايات المتحدة للدراسة".
مع ذلك، نظرًا لأن الولايات المتحدة توظف أعدادًا هائلة من الخبراء العلميين والتكنولوجيين من أصل صيني أو من دول أجنبية أخرى فهي بحاجة إلى هذا التدفق المستمر من الفكر والمهارة.
ينقل التقرير عن بيتر زيدنبرج، المحامي الذي دافع عن أساتذة جامعيين متهمين أو مشتبه بهم في التجسس الاقتصادي، أن إدارة ترامب لم توضح بعد الخطر الذي يهدد الأمن القومي الذي تحاول تجنبه، لكنها نجحت بالفعل في تخويف الأشخاص الموهوبين وإبعادهم عن الولايات المتحدة.
وقال: "هذه استراتيجيةٌ مُدمِّرةٌ للذات، إن صحَّ وصفها. هؤلاء الطلاب يملؤون مختبراتنا ويجرون جميع الأبحاث. إنهم من أذكى العلماء وأكثرهم موهبةً في أمريكا، ولا أدري كيف ستسير هذه المختبرات بدونهم".
مخاوف دائمة
في الواقع، تعود المخاوف الأمنية في الولايات المتحدة المتعلقة بالطلاب الصينيين إلى عقود مضت، ففي عام 1998، حذّر تقرير صادر عن الكونجرس من أن مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) "يعاني نقص الموارد في ظل الأعداد الكبيرة من الزوار الصينيين، بمن فيهم طلاب ودبلوماسيون وممثلو أعمال وغيرهم ممن قد يكونون متورطين في عمليات نقل التكنولوجيا الاستخباراتية والعسكرية في الولايات المتحدة".
وطالما جادل مسؤولو المكتب الفيدرالي بأن الصين منخرطة في جهود دؤوبة وواسعة النطاق لسرقة أكبر قدر ممكن من الخبرة العلمية من الولايات المتحدة، لصالح الشركات والأسواق الصينية.
ويقول مسؤولو الأمن القومي الأمريكيون إنه بينما يحدث جزء كبير من هذه الأنشطة المشبوهة في عالم الأعمال، فإن الكثير منها يجري أيضًا بين باحثي الجامعات.
ولمواجهة هذا التهديد، دأب عملاء فيدراليون لسنوات على تقديم إحاطات سرية لمسؤولين جامعيين مختارين، وتحذيرات أوسع نطاقًا للجامعات بشكل عام.
ورغم أن هذه الجهود أسفرت عن عدد كبير من النصائح والقضايا الجنائية، فإنها أثارت أيضا بعض الجدل وعدم الثقة بين المعلمين والمحققين.
في عام 2018، انتقد مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي -آنذاك- كريستوفر راي ما أسماه "سذاجة" بعض مسؤولي الكليات تجاه الخطر الذي يشكله الطلاب والمعلمون والباحثون الصينيون.
وقال: "إن استخدام جامعي البيانات غير التقليديين، وخاصة في الأوساط الأكاديمية - سواء أكانوا أساتذة أو علماء أو طلابًا - نراه في كل مكتب ميداني تقريبًا لمكتب التحقيقات الفيدرالي في جميع أنحاء البلاد".
وفي ذلك العام، بدأت وزارة العدل ما أسمته "مبادرة الصين"، للقضاء على سرقة الأسرار التجارية، بما في ذلك في الجامعات، وركزت معظم القضايا الجنائية التي انبثقت عن المبادرة على الأساتذة بدلًا من الطلاب.
ومع ذلك، لم تُدن جميع هذه الاتهامات في المحاكم، واتهم المنتقدون المدعين العامين الفيدراليين ووكلاء الحكومة بالسخرية من الأشخاص ذوي الأصول الصينية.
في مواجهة هذه الانتقادات، أغلقت إدارة بايدن المبادرة عام 2022، مع أنها استمرت في التحقيق في جرائم محتملة ارتكبها أكاديميون صينيون.
وأشار مسؤولون حاليون وسابقون إلى أن الموارد اللازمة لرصد الطلاب الجواسيس المحتملين والتحقيق معهم تواجه ضغطًا متزايدًا نظرًا لتركيز الإدارة الحالية على الهجرة، حيث وظفت مئات من عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي لدعم عملاء وزارة الأمن الداخلي الذين يسعون إلى القبض على المهاجرين غير الشرعيين وترحيلهم.