بعد سنوات من المصادرة المستمرة لكميات متزايدة من مخدر "الفنتانيل"، تلك المادة الأفيونية المصنّعة التي صارت وباءً كأخطر مخدرات في التاريخ الأمريكي، يواجه المسؤولون الأمريكيون حقيقة جديدة ومحيرة على الحدود المكسيكية، تتمثل في تراجع الكميات التي تم ضبطها خلال التهريب.
لم تحظ هذه الظاهرة باهتمام يُذكر في واشنطن، وذلك على الرغم من أن إدارة ترامب جعلت عصابات تهريب "الفنتانيل" أولويةً للأمن القومي. وأعلن البيت الأبيض، في مارس الماضي، فرضَ رسومٍ جمركيةٍ صارمة على المكسيك وكندا بسبب "تدفق المخدرات من جميع الأنواع عبر الحدود".
في الواقع، تشير البيانات الجديدة إلى قصة أكثر تعقيدًا، وفق تقرير لصحيفة "واشنطن بوست"، إذ انخفض متوسط الكميات الشهرية التي تصادرها الحكومة الأمريكية من "الفنتانيل" على الحدود المكسيكية بأكثر من النصف، من 1700 رطل في عام 2024، إلى 746 رطلًا هذا العام، وفقًا لبيانات إدارة الجمارك وحماية الحدود (CBD).
ورغم زعم البيت الأبيض بأن هذا الانخفاض "يعود الفضل فيه إلى سياسات الرئيس ترامب التي تُمكّن مسؤولي إنفاذ القانون من تفكيك شبكات تهريب المخدرات"، فإن هذا بدأ قبل تولي ترامب منصبه في يناير الماضي.
ويلفت التقرير إلى أنه "في حين أن المسؤولين لا يكتشفون سوى جزءًا من "الفنتانيل" العابر للحدود، فإن هذا الرقم يُمثل مؤشرًا على حجم الكميات المُصادرة".
انخفاض الكميات المضبوطة
تنقل "واشنطن بوست" عن عملاء إدارة مكافحة المخدرات (DEA) إن هذا الانكماش يُمثل لغزًا، لتظهر عدة تساؤلات تتمحول حول "هل تُنتج الكارتلات المكسيكية كميات أقل من الفنتانيل؟ أم أنها ببساطة وجدت طرقًا جديدة لتهريبه عبر الحدود؟".
في الحقيقة، لا يزال "الفنتانيل" رخيصًا ومتوفرًا على نطاق واسع في الولايات المتحدة، وفقًا للمحللين وعملاء مكافحة المخدرات. ومع ذلك، انخفضت وفيات الجرعات الزائدة بنسبة تقارب 27% العام الماضي، مقارنةً بعام 2023، وفقًا لتقديرات نشرتها مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC).
ويُعتبر تعاطي المواد الأفيونية الاصطناعية غير المشروعة -خاصةً "الفنتانيل"- السبب الرئيسي لهذه الوفيات، التي تُقدّر بـ 80,391 أمريكيًا العام الماضي. لكن نادرًا ما شهد العلماء انخفاضًا حادًا كهذا في وفيات الجرعات الزائدة.
حسب التقرير، انخفضت كميات المخدرات التي ضبطتها الولايات المتحدة على الحدود المكسيكية بنحو 30% خلال النصف الأول من السنة المالية الحالية، مقارنةً بالفترة نفسها من عام 2024. وقد انخفضت بشكل أكبر منذ النصف الأول من عام 2023، من 13,804 أرطال إلى 6,749 رطلًا.
يأتي هذا التراجع في الوقت الذي نشرت فيه إدارة ترامب آلاف الجنود على الحدود، ووسّعت فيه نطاق رحلات الطائرات المسيّرة.
ومع وجود المزيد من القوات البرية، يُتوقع أن ترتفع عمليات الضبط، لا أن تنخفض، لكن، يعتقد بعض مسؤولي الأمن أن عصابات المخدرات قد تسعى إلى الالتفاف على قوات أمن الحدود بطرق منها إرسال الفنتانيل عبر البريد، أو حفر الأنفاق.
وفي نهاية المطاف، لا يزال "الفنتانيل" متوفرًا بكثرة في شوارع الولايات المتحدة. وهذا الشهر، صادرت إدارة مكافحة المخدرات أكثر من 880 رطلًا في عملية "تاريخية"، حسب السلطات الأمريكية. ومع ذلك، حتى مع تضمين مثل هذه العمليات في الداخل الأمريكي، فإن ضبطيات الفنتانيل آخذة في الانخفاض.
كما يشير التقرير إلى انخفاض نسبة نقاء "الفنتانيل"، وفقًا لتقييم إدارة مكافحة المخدرات السنوي لتهديدات المخدرات. حيث وجد الباحثون عددًا متزايدًا من المواد المضافة في عينات "الفنتانيل"، بما في ذلك الهيروين الأقل فعالية.
حرب المخدرات
يشير تقرير "واشنطن بوست"، إلى أن أحد التفسيرات لانخفاض "الفنتانيل" على الحدود الأمريكية هو الحرب داخل كارتل "سينالوا"، المنتج الرئيسي للمخدر.
منذ سبتمبر الماضي، اندلعت اشتباكات بين فصيلين في "سينالوا"، أحدهما يقوده أبناء تاجر المخدرات الشهير خواكين "إل تشابو" جوزمان، والآخر موالٍ لإسماعيل "إل مايو" زامبادا. في هذا الصراع قُتل المئات، وأغلق مسلحون يلقون القنابل اليدوية ويطلقون النار من بنادق هجومية، الطريق السريع 15، وهو الطريق الرئيسي في المنطقة المؤدية إلى الحدود الأمريكية.
وقد استغلت حكومة الرئيسة كلوديا شينباوم الاضطرابات داخل الكارتل لاعتقال العشرات من أعضائه البارزين، ما زاد من صعوبة استمرارهم في إنتاج الفنتانيل، حسب اعتقاد تقرير "واشنطن بوست".
أيضًا، يقول تقرير التهديد السنوي الصادر عن إدارة مكافحة المخدرات إن هناك دلائل تشير إلى أن "العديد من مصنّعي الفنتانيل في المكسيك يواجهون صعوبة في الحصول على بعض المواد الكيميائية الأولية الرئيسية لصنعه".
ويسعى عملاء مكافحة المخدرات في أمريكا جاهدين لإجهاض أعمال موردي المواد الأولية، وقد أسفر أحد برامج تحقيقات وزارة الأمن الداخلي، المعروف باسم "عملية هيدرا"، عن مصادرة أكثر من 3.4 مليون رطل من المواد الكيميائية.
أيضًا، بضغط من إدارة الرئيس السابق جو بايدن، شنّت الصين -وهي مصدر رئيسي للمواد الكيميائية الأولية- حملةً صارمةً على الصادرات غير المشروعة. وبحلول نهاية العام الماضي، كان منتجو الفنتانيل "يكافحون للعثور على المادة الأولية النموذجية. كانوا يُحضّرون ويُجرون تجارب على أنواعٍ مُختلفة من المواد".