في تطور دبلوماسي مفاجئ يحمل في طياته مؤشرات على مرحلة جديدة من التوتر وإعادة تشكيل معادلات النفوذ في القارة الإفريقية، أعلنت جمهورية أوغندا يوم الأحد الموافق 25 مايو 2025 تعليقًا شاملًا وفوريًا لجميع أوجه التعاون العسكري مع جمهورية ألمانيا الاتحادية، ومثّل القرار منعطفًا حادًا في مسار العلاقات بين البلدين، وأثار موجة واسعة من ردود الفعل داخل الأوساط السياسية والدبلوماسية على المستويين الإقليمي والدولي.
وتأتي هذه الخطوة في سياق دولي بالغ الحساسية، تتسابق فيه القوى الكبرى لإعادة تموضعها داخل القارة الإفريقية، وتتنافس من خلاله على بسط نفوذها عبر بوابات التعاون الأمني والعسكري.
وبينما لم تتضح بعد كل خلفيات القرار الأوغندي، إلا أن تداعياته المحتملة بدأت تفرض نفسها بقوة على المشهد، واضعةً مستقبل الشراكات الإستراتيجية بين الدول الإفريقية والقوى الغربية أمام علامات استفهام كبيرة، خصوصًا في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة التي تعيد رسم خرائط الاصطفاف والتحالف في القارة.
تأسيسًا على ما تَقَدَم، يسعى التحليل للإجابة عن سؤال: ما تداعيات تعليق أوغندا تعاونها العسكري مع ألمانيا؟
دواعي القرار
تعددت الأسباب التي دفعت أوغندا إلى اتخاذ قرار تعليق تعاونها العسكري مع ألمانيا، ويتمثل أبرزها في:
(*) اتهامات تَوَرُّط السفير الألماني لدى كمبالا في أنشطة غير مرضية للدولة: تُعد الاتهامات الموجهة للسفير الألماني في كمبالا ماتياس شاور، بالضلوع في أنشطة تخريبية، أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت أوغندا إلى تعليق التعاون العسكري مع ألمانيا، فقد أكدت السلطات الأوغندية أن القرار استند إلى تقارير موثقة، دون أن تقدم تفاصيل دقيقة بشأن طبيعة هذه الأنشطة، وهو ما يشير إلى تجاوز السفير الأعراف الدبلوماسية، ويُفهم من هذا الاتهام أنه موجه لتحجيم الدور الألماني في متابعة الوضع الداخلي، وخاصة في ما يتعلق بحقوق الإنسان ومراقبة الانتخابات القادمة.
لم يتأخر الرد الألماني طويلًا، إذ أصدرت الحكومة في برلين، يوم الاثنين 26 مايو، بيانًا رسميًا دحضت فيه هذه الاتهامات بشكل قاطع، ووصفتها بأنها "سخيفة ولا أساس لها من الصحة"، مؤكدة دعمها الكامل لسفيرها في أوغندا.
(*) الرد على الانتقادات الأوروبية ضد كاينيروغابا: مثَّل قرار أوغندا أيضًا ردًّا واضحًا على الانتقادات الأوروبية المتزايدة تجاه الجنرال موهوزي كاينيروغابا، نجل الرئيس موسيفيني، الذي أثارت تصريحاته على منصة "إكس" جدلًا واسعًا داخليًا وخارجيًا، خاصة بعد تهديده الصريح لمعارضين بارزين واتهامه بتعذيب أحد حراسه. وجاءت هذه الخطوة عقب اجتماع عُقد بين دبلوماسيين أوروبيين، بينهم السفير الألماني "شاور"، والجنرال المتقاعد سليم صالح، عم كاينيروغابا وعضو بارز في جهاز الأمن، قُدّم فيه اعتذار رسمي عن سلوك الجنرال. لكن الحكومة الأوغندية رأت في هذا الاجتماع، وفي التصريحات الأوروبية لاحقًا، مثل خطاب يان صادق ممثل الاتحاد الأوروبي تدخُلًا سافرًا في شؤونها الداخلية، وهو ما دفعها لاتخاذ موقف تصعيدي ضد ما وصفته بـ"ممارسات غير دبلوماسية" تستهدف سيادتها.
(*) تأمين الأجواء الداخلية تمهيدًا للانتخابات: يُستخدَم القرار كرسالة داخلية تعبر عن استقلال القرار العسكري والسياسي، خاصًة في وقت تواجه فيه السلطة انتقادات من الداخل والخارج بشأن القمع المتزايد للمعارضة مع اقتراب الانتخابات في يناير 2026، إذ تسعى السلطات إلى تحييد أي رقابة أو تأثير خارجي قد يُعرقل خططها لتأمين انتقال سلس للسلطة أو تمديد حكم الرئيس موسيفيني.
ومن هنا، جاء قرار تعليق التعاون كإجراء وقائي لضبط المشهد الداخلي، وتوجيه رسالة حازمة بأن الدولة لن تسمح لأي جهة خارجية بالتدخل في مرحلة سياسية حساسة، بما يضمن حرية المناورة بعيدًا عن الضغوط الدولية.
تداعيات محتملة
يحمل قرار أوغندا بتعليق التعاون العسكري مع ألمانيا تداعيات مختلفة، هي:
(*) تهديد دور أوغندا في بعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال (أميصوم): يُهدد تعليق التعاون العسكري بين أوغندا وألمانيا بإضعاف الدور المحوري الذي تلعبه أوغندا في بعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال (أميصوم)، حيث تُمثل القوة الأكبر عددًا في البعثة التي تعتمد جزئيًا على تمويل الاتحاد الأوروبي. ومع تصاعد التوتر مع ألمانيا، من المحتمل تراجع التمويل الدولي ما قد يُقوِّض عمليات حفظ السلام ويُضعف جهود مكافحة الإرهاب، في وقت قد تستغل فيه جماعات مثل حركة الشباب هذا الفراغ الأمني. وعليه، فإن أمن منطقة القرن الإفريقي برمتها قد يتأثر إذا استمرت الأزمة بين أوغندا والدول الأوروبية المانحة.
(*) تدهوُر حاد في العلاقات الأوغندية الألمانية: قد يُفضي القرار إلى عُزلة دبلوماسية متزايدة لأوغندا عن شركائها الغربيين، ومن المرجح أن تُعيد ألمانيا، كونها من أكبر المانحين لأوغندا، النظر في مخصصات المساعدات التنموية، ما سيؤثر سلبًا على قطاعات حيوية مثل الرعاية الصحية والبنية التحتية. كما يُهدد التصعيد الحالي بتراجع الاستثمارات والتبادل التجاري بين البلدين، وهو ما سيُفاقم من الضغوط الاقتصادية على أوغندا، التي تعاني أصلًا من تداعيات عقوبات دولية عليها.
(*) إعادة رسم خريطة النفوذ في شرق إفريقيا: من المرجح أن يحمل القرار في طيّاته إشارات أعمق إلى تحوُّل إستراتيجي محتمل في موازين القوى داخل منطقة شرق إفريقيا، فمع تراجع العلاقات مع الدول الأوروبية، تُصبح أوغندا أكثر انفتاحًا على بدائل دولية أخرى تُقدم نماذج للتعاون أقل ارتباطًا بالشروط المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان. وفي هذا السياق، تبرز كل من الصين وروسيا كقوتين تسعيان إلى تعزيز حضورهما في القارة الإفريقية، من خلال تقديم دعم عسكري، ومساعدات تنموية، واستثمارات استراتيجية دون التدخل في الشؤون الداخلية للدول المضيفة.
ختامًا، يمكن القول إن قرار أوغندا بتعليق التعاون العسكري مع ألمانيا لا يُمثّل مجرد رد فعل آني أو خلاف دبلوماسي معزول، بل يعكس تحولاً أعمق في فلسفة التعامل بين بعض الدول الإفريقية وشركائها الغربيين.
وعلى الرغم من أن حيثيات الاتهامات الموجهة للسفير الألماني لم تُفصَّل بشكل علني، فإن الرسائل السياسية التي حملها القرار واضحة: "أوغندا ترسل إنذارًا بأنها لن تتسامح مع أي شكل من أشكال ما تعتبره تدخلاً في شؤونها الداخلية، حتى وإن جاء من شركاء تقليديين مثل ألمانيا.
وفي ظل هذا المشهد المتشابك، يبقى الخيار العقلاني هو العودة إلى لغة الحوار وتفعيل القنوات الدبلوماسية، بما يضمن احترام السيادة الوطنية من جهة، وعدم المساس بالقيم الإنسانية والسياسية التي تشكِّل جوهر الشراكة الحقيقية من جهة أخرى.