في تاريخ الفن العربي، تتلألأ أسماء خالدة تركت بصمات لا تُمحى، ومن بينها تتربع الفنانة الراحلة مديحة يسري، الملقبة بـ"سمراء النيل"، التي جمعت بين الجاذبية الهادئة، والرقي، والأداء الفني الصادق، لتغدو إحدى أبرز رموز الجمال والموهبة والالتزام في السينما المصرية.
بداية استثنائية
وُلدت مديحة يسري، واسمها الحقيقي غنيمة حسين فؤاد، في القاهرة عام 1921، وجاء دخولها عالم الفن بمحض الصدفة حين لفتت أنظار المخرج محمد كريم، لتظهر بدور صغير أمام موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب في فيلم "ممنوع الحب" عام 1940، غير أن انطلاقتها الحقيقية جاءت عندما اختارها يوسف وهبي للمشاركة في فيلم "ابن الحداد" عام 1944، ليمنحها اسمها الفني الجديد "مديحة يسري"، وينطلق معها مشوار تألق استمر لأكثر من سبعين عامًا.
سطع نجم مديحة يسري بقوة، وقدّمت أعمالًا سينمائية أصبحت علامات في تاريخ السينما المصرية منها فيلم "الأفوكاتو مديحة"، الذي قامت ببطولته وإنتاجه، و"الخطايا" أمام عبد الحليم حافظ، و"أيوب" مع عمر الشريف، تنوعت أدوارها بين الفتاة الرومانسية، الأم الحنون، المرأة القوية، والسيدة الأرستقراطية، ما أبرز مرونتها الفنية وقدرتها على تجسيد مشاعر متنوعة بصدق وعفوية دون تكلف أو افتعال.
تميّز أداء مديحة يسري بالرقي والبساطة، معتمدة على نظرات عينيها العميقة، وتعبيرات وجهها الهادئة، وصوتها الذي سخّرته ببراعة لخدمة الشخصيات التي قدمتها. كانت قادرة على إيصال مشاعر معقدة بأدوات أدائية هادئة لكنها مؤثرة، وهو ما جعلها محبوبة من الجمهور والنقاد على حد سواء. وفي الأربعينيات، اختيرت ضمن أجمل عشر نساء في العالم، ما رسّخ مكانتها كأيقونة للجمال الشرقي.
صاحبة رؤية
لم تكتفِ مديحة يسري بالتمثيل، بل خاضت مجال الإنتاج السينمائي من خلال شركتها الخاصة، وقدمت عددًا من الأفلام البارزة مثل "إني راحلة" (1955)، "قلب يحترق" (1959)، "وفاء للأبد" (1962)، "صغيرة على الحب" (1966)، "السيرك" (1968)، و"الحب المحرم" (1971). أظهرت من خلالها وعيًا فنيًا ورؤية إنتاجية جريئة، وهو ما جعلها من أوائل النجمات اللاتي امتلكن زمام المبادرة الفنية.
إلى جانب مسيرتها الفنية، كان لمديحة يسري دور بارز على الساحة الاجتماعية والوطنية. ففي عام 1998، إذ عينت عضوًا بمجلس الشورى، تقديرًا لدورها المجتمعي والفني، واستمرت عضويتها حتى 2004، سعت خلالها للدفاع عن قضايا المرأة والفنانين والشباب، كما شاركت في العديد من المبادرات الاجتماعية والخيرية، مؤكدة أن الفن مسؤولية تجاه الوطن، لا مجرد مهنة.
تُعد مديحة يسري، إلى جانب فاتن حمامة، من الفنانات القلائل اللاتي وقفن أمام أربعة من عمالقة الطرب في مصر: محمد عبد الوهاب، فريد الأطرش، محمد فوزي، وعبد الحليم حافظ، ما يعكس ثقة هؤلاء النجوم في موهبتها وقيمتها الفنية.
اختتمت مديحة يسري مشوارها الفني الحافل بظهورها الأخير في مسلسل "قلبي يناديك" عام 2004، وقررت بعدها اعتزال التمثيل، محافظةً على صورتها الأنيقة ومكانتها الرفيعة في قلوب محبيها. وفي 30 مايو 2018، رحلت "سمراء النيل" عن عمر ناهز 99 عامًا، بعد أن خلّفت وراءها أكثر من 90 عملًا فنيًا، وإرثًا إنسانيًا لا يُنسى.
مديحة يسري لم تكن مجرد نجمة سينمائية، بل كانت نموذجًا متكاملًا للفنانة التي تجمع بين الإبداع والجمال والوعي المجتمعي، وكانت طوال حياتها عنوانًا للالتزام والرقي، وستبقى دائمًا واحدة من أعمدة الفن المصري، التي صنعت ذاكرة سينمائية وإنسانية لا تغيب.