بينما كانت الزيادات القوية في الأجور وسوق العمل الضيقة منذ عبور الدبابات الروسية الحدود الأوكرانية في فبراير 2022 عاملًا حاسمًا في الحفاظ على الدعم الشعبي للكرملين خلال الحرب، على الرغم من العقوبات والتضخم المرتفع وغيرها من المشاكل الاقتصادية، يبدو أن هذا الارتفاع يقترب من نهايته.
ويشير تحليل لإعلانات التوظيف أجرته صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية إلى أن الارتفاع الحاد في مستويات معيشة الروس، والنمو الهائل في رواتب الموظفين الجدد -الذي ساهم في تعزيز الدعم للحرب في أوكرانيا- قد ضعف في بداية عام 2025.
وتؤكد الصحيفة البريطانية أن رواتب الوظائف الجديدة ارتفعت بنسبة 4.2% بين سبتمبر وديسمبر 2024 "بالقيمة الاسمية فقط"، ولكن بنسبة 2.2% فقط في الأشهر الثلاثة المنتهية في أبريل.
واستمدت تقديرات "فايننشال تايمز" من تحليل إعلانات الوظائف الروسية على الإنترنت، والتي جُمعت فور نشرها. وتُصنّف كل وظيفة مع أدوار متشابهة باستخدام الذكاء الاصطناعي، ثم تُعدّ تقديرات لتغيرات الرواتب لوظائف مماثلة باستخدام تقنية إحصائية طورتها منصة التوظيف العالمية Indeed.
مع ذلك، يزعم خبراء اقتصاديون وبعض استطلاعات الرأي الأخيرة للمستهلكين أن "شعور الروس بالاستقرار المالي سوف يستمر"، على الرغم من أن بيانات أخرى -بما في ذلك تباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي وانخفاض عائدات النفط- تشير إلى أن اقتصاد الحرب الذي ينتهجه الرئيس فلاديمير بوتين يفقد زخمه.
تدفق الأموال
تنقل الصحيفة البريطانية عن كونستانتين ناسونوف، الخبير الاقتصادي الروسي والباحث السابق في كلية "سكولكوفو" لإدارة الأعمال في روسيا: "يعاني الاقتصاد الروسي من ضغوط، وتتراكم المشاكل. ومع ذلك، في الوقت نفسه، أصبح لدى الناس أموال أكثر من ذي قبل".
وقال: "مهما بدا الأمر غريبًا، فإن هذه الاتجاهات ليست متنافية".
ويضيف تحليل "فايننشال تايمز" إلى صورة سوق العمل المتجمدة التي رسمتها إحصاءات من هيئة الإحصاء الفيدرالية الروسية (روستات)، والتي تشير إلى أن النمو في الدخول الحقيقية -بما في ذلك أيضًا الأرباح من مصادر أخرى مثل تأجير العقارات والفائدة على المدخرات- انخفض إلى 7.1% في الأشهر الثلاثة من عام 2025، من متوسط نمو بلغ 8.3% في العام الماضي.
وتشير الصحيفة إلى أنه "على مدى السنوات التي سبقت الحرب، تراكمت لدى موسكو عائدات فائضة من صادرات النفط والغاز، مما أدى إلى تخصيص أموال لا تحتاج إليها ميزانية الدولة على الفور".
يقول التقرير: "بعد بدء الحرب، فتح الكرملين الصنابير، وتدفقت الأموال إلى الاقتصاد مع تحوله إلى حالة الحرب، من خلال رواتب المجندين في الجيش، والقروض الرخيصة للشركات المرتبطة بالحرب، ودعم الرهن العقاري السخي للأسر".
انتعاش بسيط
رغم أن الدخول الحقيقية انخفضت في البداية بعد بدء الحرب، لكنها انتعشت في أواخر عام 2022، وبدأت بالارتفاع بمعدلات لم نشهدها منذ أكثر من عقد، وفقًا لبيانات هيئة الإحصاء الروسية.
بل، حتى التضخم التراكمي، الذي بلغ حوالي 30% على مدى ثلاث سنوات، لم يُضعف المكاسب.
ولأول مرة منذ أكثر من عقد من الزمان، تجاوزت نسبة الروس الذين لديهم نظرة إيجابية لوضعهم المالي أولئك الذين لديهم نظرة سلبية في منتصف عام 2024، وفقًا لمركز "ليفادا" الروسي لاستطلاعات الرأي.
أيضًا، صنّف الروس عام 2023 كأفضل عام مالي لهم منذ عشر سنوات على الأقل، وذلك في استطلاعات رأي حُللت في ورقة بحثية أجراها معهد الاقتصادات الناشئة التابع لبنك فنلندا، وجمعتها جامعة HSE في موسكو.
وتقدم استطلاعات رأي أحدث أجرتها مجموعة "كرونيكل" -وهي مجموعة من الباحثين المستقلين- وجهة نظر أقل إيجابية بعض الشيء، لكنها تشير إلى أنه لا يوجد حتى الآن أي مؤشر على حدوث انخفاض حاد من شأنه أن يؤدي إلى إثارة عدم الاستقرار السياسي.
وأفاد ما يقرب من 40% من الروس المشاركين في استطلاعات "كرونيكل" بتدهور وضعهم المالي. إلا أن الأغلبية لم تلاحظ أي تغيير (40%) أو تحسنًا (20%) في وضعهم المالي.
مخاوف الهبوط
رغم هذه الانفراجة المادية في روسيا، لكن فوائد اقتصاد الحرب لم تكن ملموسة بالتساوي.
فقد شهد كبار السن والعاملون في القطاع العام -بمن فيهم المعلمون وموظفو الخدمة المدنية والعاملون في المجال الثقافي- نموًا ضئيلًا في الدخل الحقيقي، نظرًا لأن رواتبهم عادةً ما تكون مرتبطة بمؤشر التضخم؛ حسب التقرير.
ويبلغ عدد المتقاعدين من سكان روسيا المسنين حوالي 30%، في حين لا يزال حوالي 20% منهم يعملون.
أيضًا، هناك دلائل هذا العام على أن اقتصاد الحرب المزدهر في روسيا بدأ يتلاشى. ومن المتوقع أن ينخفض نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى نحو 2% هذا العام، وفقًا للتقديرات الرسمية، وهو تباطؤ حاد مقارنة بمتوسط 4% في العامين الماضيين.
وتشير أحدث توقعات صندوق النقد الدولي إلى تباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 1.5% هذا العام و0.9% في عام 2026، منخفضًا من أكثر من 4% في عام 2024. وتبدو توقعات أخرى أكثر تشاؤمًا، فقد استُنفدت معظم احتياطيات البلاد، وتتعرض الإيرادات الجديدة لضغوط مع استمرار انخفاض أسعار النفط.
ورغم أن أغلب القوى العاملة تعمل بالفعل، ومع تحديد البنك المركزي الروسي لسعر الفائدة الرئيسي عند 21% -وهو أمر ضروري لكبح جماح التضخم- فإن الشركات تجد صعوبة في الاقتراض من أجل النمو.
ومع ذلك، فمن المحتمل أن يستغرق الأمر بعض الوقت قبل أن يشعر معظم الروس بضربة قد تؤدي إلى تغيير في نسبة التأييد الجاري.