أثار تهديد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بفرض رسوم جمركية بنسبة 50% على عدد من السلع الأوربية، جدلًا واسعًا على الصعيدين السياسي والاقتصادي، فقد جاء هذا القرار في إطار نهج "أمريكا أولًا" الذي تبنته إدارة ترامب، ويُركز على تقليص العجز التجاري وحماية الصناعات الوطنية الأمريكية.
وبالتالي، تواجه أوروبا خلال هذه الفترة اختبارًا اقتصاديًا كبيرًا، فالولايات المتحدة الأمريكية شريك تجاري رئيسي للدول الأوربية المختلفة، وهو ما يجعل تنفيذ الرسوم الجمركية بمثابة ضربة قاسية للقارة العجوز، التي تُعاني بالفعل أزمات داخلية عديدة.
ومن هنا، زادت دعوات التفاوض من الجانب الأوروبي، إذ إن تأجيل تنفيذ الرسوم حتى 9 يوليو2025، بعد مكالمة هاتفية بين ترامب ورئيسة المفوضية الأوربية أورسولا فون دير لاين، أعطى الفرصة لمزيد من المفاوضات.
تأسيسًا على ما سبق، يتطرق هذا التحليل إلى الأوضاع الاقتصادية داخل المنطقة الأوروبية، وانعكاسات تنفيذ تهديد ترامب على الدول الأوروبية.
مؤشرات رئيسية
يُمكن التعرف على وضع الاقتصاد الأوروبي في هذه المرحلة من خلال النقاط التالية:
(-) تراجع معدل النمو الاقتصادي: تسبب العديد من العوامل في تراجع النمو الاقتصادي الأوروبي كما يوضح الشكل (1)، إذ بلغ 1% عام 2024 للاتحاد الأوروبي، و0.9% لمنطقة اليورو، مقارنة بـ6.3% لكل من الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو عام 2021.
وكان من هذه العوامل، الحرب الروسية الأوكرانية وارتفاع الطلب على الطاقة، ومشكلات هيكلية مثل انخفاض نمو الإنتاجية وضعف القدرة التنافسية، إضافة إلى ذلك تفاقمت هذه المشكلات مع تغير ديناميكيات التجارة العالمية وتزايد نقاط الضعف في قطاع التصنيع، خاصة في ظل اعتماد أوروبا على الواردات من الصين.
ولكن على الرغم من هذا التراجع، تذهب التوقعات إلى أن النمو الاقتصادي في أوروبا سينتعش عام 2026 إلى 1.5% للاتحاد الأوروبي، وإلى 1.4% في منطقة اليورو، مقارنة بتوقعات تسجيله 1.1% للاتحاد الأوروبي و0.9% لمنطقة اليورو، نهاية عام 2025.
ومن الجدير بالذكر هنا أن هذا النمو سيكون مدعومًا باستمرار ارتفاع الاستهلاك والاستثمار، لكن مع التأكيد أن هذا الانتعاش لا يزال ضعيفًا، وأن أوروبا بإمكانيتها المختلفة تستطيع تحقيق نمو أكبر من ذلك.
(-) ارتفاع معدل الديون: تعتبر مشكلة الديون من المشكلات الكبرى في بعض الدول الأوروبية، خاصة جنوب أوروبا، فهناك أكثر من 13 دولة أوروبية لديها نسبة دين عام تفوق الـ60% من الناتج المحلي الإجمالي.
ووفقًا للشكل (2) يتضح الارتفاع الكبير في نسبة الديون من الناتج المحلي الإجمالي لكثير من الدول الأوروبية، خلال الربع الثالث من عام 2024، بالمُقارنة بالربع السابق من نفس العام، فهناك دول تعدت هذه النسبة فيها الـ100%، كما في اليونان، إذ بلغت 158.2%، وفي إيطاليا بلغت 136.3%، فرنسا 113.8%، بلجيكا 105.6%، وفي إسبانيا 104.3%.
وهو الأمر الذي يوضح مدى تفاقم مشكلة الديون في الدول الأوروبية، التي تجعلها أكثر عُرضة للصدمات الاقتصادية، فضلًا عن استنزاف هذه الديون لخطط التنمية داخل هذه الدول.
(-) أداء الأسواق المالية: ترتب على النمو المتواضع للأسواق المالية في أوروبا، أن معظم الأوروبيين يقوموا بالاستثمار في مؤشر ستاندرد آند بوزر الأمريكي S&p500، فأسواق المال في أوروبا تُعاني التقلبات الشديدة، وهو ما يُبرز في تزايد مؤشرات مثل VSTOXX "مؤشر تقلبات منطقة اليورو"، الأمر الذي يعكس عدم يقين وقلقًا بين المستثمرين.
وإضافة إلى ذلك تُعاني أسواق المال الأوروبية انخفاضًا في حجم الطروحات العامة، فأحجام التداول تتراجع والطروحات الأوليّة نادرة، وأكبر الشركات الأوروبية تُفضل إدراج أسهمها في الأسواق الأمريكية.
(-) تراجع النشاط الإنتاجي: يُعاني النشاط الإنتاجي في أوروبا عوامل ضعف عديدة، بسبب ارتفاع أسعار الطاقة ومعدلات التضخم، فقد انخفض الإنتاج الصناعي، مايو 2024 بنسبة 0.6% في منطقة اليورو، وبـ0.8% في الاتحاد الأوروبي.
ووفقًا للشكل (3) سجل معدل التغير في الإنتاج الصناعي داخل بعض الدول الأوروبية معدلات سالبة، ففي بولندا بلغ (-0.4%)، السويد (-0.7%)، لاتفيا (-0.9)، لوكسمبورج (-1.1%)، وغيرها من الدول الأخرى كما يُشير الشكل.
انعكاسات محورية
ينعكس تهديد ترامب بفرض رسوم بنسبة 50% على أوروبا سلبًا على العديد من المحاور، وفقًا للآتي:
(-) تراجع الأسواق المالية: تتأثر الأسواق المالية الأوروبية، بالسياسة الخارجية لترامب تجاه القارة العجوز، فعندما هدد ترامب بفرض الرسوم الجمركية على الدول الأوروبية، تأثر سوق السندات الأوروبي بشكل كبير، إذ انخفض عائد السندات الألمانية لأجل سنتين وخمس سنوات بمقدار 10 نقاط أساس، كما انخفضت عوائد السندات الفرنسية لأجل سنتين بمقدار 9 نقاط أساس.
وعلى مستوى الأجل الطويل، انخفضت عوائد السندات الألمانية لأجل 20 و30 عامًا، بنحو 7 نقاط أساس، بينما انخفضت عوائد السندات الفرنسية والإيطالية لأجل 30 عامًا بمقدار 5 نقاط أساس.
وإضافة إلى ذلك انخفضت أسهم السيارات الأوروبية، وارتفعت الخسائر في أسهم البنوك الأوروبية، إذ انخفض مؤشر "ستوكي بنوك" الإقليمي بنسبة 3.6%، مع انخفاض أسهم "دويتشه بنك" الألماني بنسبة 5.2%، وأسهم "سوسيتيه جنرال" الفرنسي بنسبة 4.6%، وأسهم بنك "يونكريديتو" الإيطالي بنسبة 4.2%.
وبمجرد إعلان ترامب تأجيل فرض الرسوم الجمركية بنسبة 50% على جميع واردات الاتحاد الأوروبي حتى 9 يوليو 2025، انتعشت الأسواق المالية الأوروبية، فقد ارتفعت العقود الآجلة لأسهم الأسواق الأوروبية، إذ ارتفع مؤشر ستوكس أوروبا بنسبة 1% الاثنين 26 مايو، كما ارتفع مؤشر "داكس" الألماني ومؤشر "كاك "40 الفرنسي بنسبة 1.69% و1.17% على التوالي. ومن هنا يتضح حساسية سوق الأوراق المالية الأوروبية لقرارات ترامب التجارية.
(-) تهديد التجارة الأوروبية: يُعتبر الاتحاد الأوروبي أحد الشركاء التجاريين الرئيسين مع الولايات المتحدة الأمريكية، فكما يوضح الشكل (4) ارتفعت صادرات الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة الأمريكية من 380 مليار دولار، عام 2013 إلى 571 مليار دولار، عام 2024، أي ارتفعت بمعدل نمو نسبته 50.26%، وهو الأمر الذي يوضح أن الاتحاد الأوروبي سيتأثر بشدة حال فرض الرسوم الجمركية.
وإضافة إلى ذلك ينتج عن العلاقة التجارية القوية بين بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، تدهور كبير في الميزان التجاري لهذه الدول، ففي عام 2024 صدرت ألمانيا بضائع بقيمة 176 مليار دولار، بينما صدرت إيرلندا ما قيمته 78.6 مليار دولار، وصدرت إيطاليا ما قيمته 70.2 مليار دولار، وهو ما يعني أن خسارة مكاسب هذه التجارة سيعرض هذه الدول لآثار سلبية.
(-) تأثُر القطاعات الصناعية: ينعكس الاضطراب التجاري بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية سلبًا على القطاعات الصناعية التي تُصدر للسوق الأمريكية، خاصة قطاعات المنتجات الطبية والآلات والمركبات، وفي عام 2024 بلغت قيمة صادرات الاتحاد الأوروبي من هذه المنتجات نحو 269.60 مليار دولار.
وإضافة إلى ذلك سيُعاني قطاع صناعة السيارات بشكل كبير من هذه الرسوم إذا تم تنفيذها، إذ تبلغ قيمة صادرات السيارات الأوروبية إلى الولايات المتحدة نحو 45 مليار دولار سنويًا، وبالتالي فالرسوم المقترحة ستدفع الشركات إلى إعادة هيكلة سلاسل التوريد، بما في ذلك نقل خطوط الإنتاج إلى دول أخرى.
وهو الأمر الذي يوضح أن أي زيادة في الرسوم الجمركية ستجعل هذه الشركات تواجه انخفاضًا في الإيرادات والأرباح، ما قد يدفع بعض الشركات إلى خفض الإنتاج وتسريح العمالة، وبالتالي ارتفاع معدلات البطالة داخل الدول الأوروبية.
في النهاية، يُمكن القول إن تهديد ترامب بفرض رسوم جمركية بنسبة 50% على عدد من السلع الأوروبية يُمثل تحولًا جوهريًا في نهج الولايات المتحدة الأمريكية تجاه شركائها التجاريين التقليدين، وهو ما يفتح الباب أمام حرب تجارية متبادلة بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، تؤثر سلبًا على سلاسل التوريد العالمية والاستقرار الاقتصادي العالمي.
ومن ناحية أخرى؛ سلطت هذه التهديدات الضوء على هشاشة العلاقات الاقتصادية عبر الأطلسي، والحاجة إلى تعزيز الحوار والتعاون؛ لحل الخلافات التجارية بطرق بناءة مستدامة، بعيدًا عن التصعيد والإجراءات الأحادية.