الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

فاتن حمامة.. سيدة الشاشة العربية صاحبة الدستور الفني الخاص

  • مشاركة :
post-title
الممثلة فاتن حمامة

القاهرة الإخبارية - محمود ترك

الفن ليس مجرد شهرة، الفن مسؤولية تجاه الناس وتجاه ضميري"، بهذه الكلمات لخّصت الفنانة المصرية الراحلة فاتن حمامة، في لقاء إعلامي، رؤيتها لما كانت تقدمه على شاشات السينما والتلفزيون، وهو ما يمكن اعتباره بمثابة دستور مهني وضعته لنفسها، وحافظت عليه طوال مشوارها الفني الذي بدأ منذ طفولتها.

النجمة التي وُلدت في مثل هذا اليوم، 27 مايو من عام 1931، منحها القدر موهبة التمثيل، وذكاءً لاحظه الجميع منذ طفولتها، وبصيرة فنية وقدرة استثنائية على التجدد والارتقاء بدور الفنان في مجتمعه. وعلى مدار أكثر من 50 عامًا، تنقّلت بين أدوار متنوعة، لتصبح حالة فنية وإنسانية متكاملة، تطورت ملامحها مع الزمن، واختارت بعناية الشخصيات التي جسدتها، بحيث أصبحت حياتها الفنية مرآة متقنة للتحولات الاجتماعية والاقتصادية في مصر والعالم العربي.

الطفلة التي سبقت عمرها

ظهرت فاتن حمامة لأول مرة على شاشة السينما في التاسعة من عمرها، من خلال فيلم "يوم سعيد" الصادر عام 1940 أمام موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب. منذ هذا الظهور، لفتت الأنظار بذكائها الفطري وحضورها الطاغي، ما جعل المخرج محمد كريم يتوسم فيها مشروع نجمة كبيرة، تمتلك جرأتها المبكرة، ولها العديد من المواقف التي تثبت ذلك، منها محاولتها امتطاء حصان خلال التصوير لتعويض فشل إحدى الممثلات، وهو ما كاد يودي بها لولا تدخل مدرب الخيول وقتها.

تلك الطفلة التي كانت تبادر بثقة أمام الكاميرا، ستصبح لاحقًا النموذج المثالي للفنانة التي تعرف كيف تكبر على الشاشة ومعها يكبر جمهورها.

فاتن حمامة ومحمد عبد الوهاب في "يوم سعيد"
من البراءة إلى الوعي

مع دخولها مرحلة المراهقة ثم الشباب، تجنبت فاتن حمامة أن تقع أسيرة لجمال الوجه أو الأدوار العاطفية الخفيفة، بل اتخذت خيارات ناضجة مبكرًا، فانتقلت بسلاسة من أدوار الفتاة الحالمة في بدايتها السينمائية، ومنها "ملاك الرحمة" عام 1946 و"المليونيرة الصغيرة" عام 1948، إلى أدوار المرأة الواعية في أعمال فنية لاحقة، ومنها فيلمها الشهير "أفواه وأرانب" عام 1976، وراحت تختار نصوصًا ترتكز على قضايا اجتماعية وإنسانية عميقة. هذا التدرج لم يكن عشوائيًا، بل نتيجة وعي بطبيعة المرحلة التي يمر بها المجتمع، وما يتوقعه الجمهور من الفنانة التي أصبحت تُلقّب بـ"سيدة الشاشة العربية".

ربما كان أبرز ما يميز مسيرة فاتن حمامة هو وعيها بأن السينما وسيلة ترفيه وأداة تغيير اجتماعي وثقافي. تجسدت هذه الرؤية بوضوح في عدد من أفلامها التي أثارت نقاشات مجتمعية واسعة، مثل "أريد حلاً" الصادر عام 1975، الذي أدت فيه شخصية "درية" المطالِبة بتعديل قوانين الأحوال الشخصية الظالمة للمرأة، وهو ما تحقق فعلاً بعد عرض الفيلم، الذي كان له دور بارز ومباشر في صناعة الوعي العام.

كما تجلّى هذا الوعي في أفلام أخرى، منها "الباب المفتوح" الصادر عام 1963، إذ جسّدت دور "ليلى" التي رفضت الخضوع لسلطة الأب والمجتمع الذكوري، وانخرطت في النضال الوطني، و"دعاء الكروان" الصادر عام 1959، وتناول قضية الشرف والكرامة من منظور مختلف، و"أفواه وأرانب"، الذي يسلط الضوء على الانفجار السكاني، من واقع أسرة ريفية بسيطة، وفلاحة تبحث عن عمل وترفض الاستغلال.

فيلم "أفواه وأرانب"
بين الأدب والسينما

لم تقتصر اختيارات فاتن حمامة على النصوص المكتوبة خصيصًا للسينما، بل شاركت في عدد كبير من الأعمال المأخوذة عن روايات كبار الأدباء، خصوصًا إحسان عبد القدوس، ومنها "لا أنام"، "الخيط الرفيع"، "لا تطفئ الشمس" و"إمبراطورية ميم". وفي هذه الأعمال، قدمت نموذجًا ناضجًا للمرأة التي تعيش صراعًا داخليًا بين مشاعرها ومسؤولياتها الاجتماعية.

ورغم أنها لم تشارك في أفلام مأخوذة عن روايات نجيب محفوظ، إلّا أن بعض السيناريوهات التي كتبها محفوظ بنفسه لروايات لأدباء آخرين، ومنها "لك يوم يا ظالم"، "الطريق المسدود" و"إمبراطورية ميم"، جمعت بينهما، ما أضفى على أفلامها بعدًا فكريًا راقيًا.

من أبرز المحطات في حياتها الفنية كانت شراكتها الطويلة مع المخرج هنري بركات، التي أثمرت 12 فيلمًا من الأجمل في تاريخ السينما العربية، منها "الحرام"، "دعاء الكروان" و"ليلة القبض على فاطمة". كانت العلاقة بينهما تتعدى الاحتراف الفني إلى درجة من التفاهم النفسي والإبداعي العميق، بحيث أصبح كلٌّ منهما جزءًا من مسيرة الآخر. وفي شهادة مؤثرة، قال بركات في حوار تلفزيوني قديم إنه حين يعيد مشاهدة فيلم "الحرام" يُدهش من الأداء الجماعي والفردي، وأنه شعر بالفرح الحقيقي أثناء العمل على هذا الفيلم رغم كل الصعوبات، وهو شعور نادر بين المخرجين.

فاتن حمامة
الرحيل

في 17 يناير 2015، رحلت فاتن حمامة عن عالمنا، لكن سيرتها وأعمالها لا تزال حاضرة بقوة، أفلامها تُدرّس في معاهد السينما، ونموذجها في تقديم المرأة الواقعية والمتعددة الأبعاد لا يزال مصدر إلهام لجيل جديد من الفنانين، فهي مثال نادر لفنانة عرفت كيف توازن بين الفن والرسالة، بين الجمال والوعي، بين الطفلة التي أرادت ركوب الحصان، وبين سيدة الشاشة التي انتقلت من أدوار الفتاة البريئة الحالمة إلى مناقشة قضايا اجتماعية واقتصادية مهمة.