في كل حديث عن تاريخ السينما المصرية والعربية، يفرض اسم إسماعيل ياسين نفسه بقوة، ليس فقط كواحد من أبرز نجوم الكوميديا، بل كظاهرة فنية شاملة، تجاوزت التصنيفات المعتادة للممثل الكوميدي، فالنجم الذي تحل اليوم 24 مايو ذكرى رحيله، جعل الضحك مهنة ورسالة، وخلف وراءه إرثًا من الأعمال التي لم تبهت مع الزمن، بل اكتسبت قيمة إضافية مع كل جيل جديد يكتشفها.
ولد إسماعيل ياسين في السويس عام 1912، وحاول في بداياته أن يكون مطربًا على خطى محمد عبدالوهاب، لكنه سرعان ما اكتشف أن الضحك هو قدره الحقيقي. بدأ كمونولوجست، فكان يلقي أغنيات مضحكة في الأفراح والموالد، حتى جذب الأنظار إلى موهبته الاستثنائية، وكان انتقاله إلى القاهرة محطة الانطلاق، حيث احتضنته فرقة بديعة مصابني، ثم قدمه الممثل والمخرج فؤاد الجزايرلي للسينما، ليصبح نجمًا محببًا لشباك التذاكر.
نجم يكسر القواعد
عندما تصدر إسماعيل ياسين عناوين الأفلام، جاء ذلك لإيمان صناع السينما بأن اسمه أصبح ضمانًا لنجاح العمل أو "علامة تجارية" تمتلك ثقة الجمهور، ليكون صاحب سابقة لم تتكرر، وهي أن تصاغ عناوين الأفلام باسمه، مثل "إسماعيل ياسين في الجيش" و"إسماعيل ياسين في مستشفى المجانين".
الممثل الشهير بـ"سُمعة" نجح في أن يصنع من اسمه علامة تجارية في حد ذاتها، فالجمهور يُقبِل على أعماله ليشاهده فقط، مهما كانت نوعية العمل، أو زمن عرضه قديمًا أو حديثًا، ويتضح تأثير ذلك القبول الكبير من استعداد المشاهد العادي لسماع "إفيه" جملة أو كلام له تأثير كوميدي، على لسان إسماعيل ياسين مرارًا وتكرارًا في أفلام عدة، دون ملل وتضحكهم في كل مرة، بل الأكثر من ذلك أنهم ينتظرونه ليقولها، ساخرًا مرة من "فمه" الكبير أو مرتكبًا فعلًا ساذجًا مرة أخرى، حتى أن "الدويتو" الثنائي الشهير الذي كونه مع الراحل رياض القصبجي أو "الشاويش عطية" بات وجبة كوميدية مفضلة للجمهور يتابعها في العديد من أفلامهما.
أيضًا من ملامح التفرد التي تُميز مسيرة إسماعيل ياسين أن الشخصية التي قدمها في كثير من هذه الأعمال بدت متشابهة، فهو رجل ساذج طيب القلب توقعه الظروف في مشكلات عدة، ويخرج في النهاية منتصرًا، مثلما رأينا في أفلام منها "البوليس السري"، و"ابن حميدو"، و"لوكاندة المفاجآت"، و"حماتي ملاك"، هذا التكرار لم يكن عيبًا في حالته، بل كان جزءًا من الوصفة الناجحة التي عرف بها كيف يخاطب الجمهور بلغة بسيطة وعفوية.
بقدر ما كانت أفلامه مضحكة، كانت أيضًا انعكاسًا للواقع المصري ومنها "إسماعيل ياسين في جنينة الحيوانات"، وتفاصيل الإنسان العادي الذي يحاول أن يتجاوز مشكلاته بخفة ظل.
لم يكن الضحك عند إسماعيل ياسين مجرد تهريج، بل نتاج ذكاء فني وإنساني، نابع من إحساسه بالناس، حتى عندما لجأ إلى "الإفيه" المتكرر أو تعبيرات الوجه المبالغ فيها، كان ذلك جزءًا من شخصية رسمها بدقة، تجعل الجمهور يتقبله في كل مرة وتعيش مع الزمن.
دائرة الانطفاء
رغم عدم استكماله تعليمه، إلا أن إسماعيل ياسين كان مثقفًا عصاميًا، علَّم نفسه القراءة واللغات، وجمع مكتبة ضخمة في منزله، وكان يرفض أداء المشاهد الجريئة، واضعًا حدودًا واضحة لفنه احترامًا لجمهوره، وبين خفة دمه أمام الكاميرا وصرامته في الحياة، تجسدت شخصيته التي تجمع بين التناقضات، عصبي المزاج لكنه طيب القلب، بسيط لكنه دقيق في التفاصيل، فكاهي لكن حياته في أيامها الأخيرة كانت قاسية للغاية.
في أواخر الخمسينيات، وتحت تأثير نجاحه الكبير، أسس فرقته المسرحية، لكنه دخل دوامة من المشكلات، وأغلقت أبواب المسرح أمامه، وتراكمت عليه الضرائب، وبدأت دائرة الانطفاء، سافر إلى لبنان بحثًا عن فرصة، وظهر في بعض الأعمال هناك، لكنها لم يكن لها نفس التأثير.
الديك.. آخر ما تبقى من البهجة
من المحطات التي تنسى كثيرًا في مسيرته، الفيلم القصير "الديك"، الذي كتبه ابنه ياسين وهو في سن الـ21، وأخرجه أحمد ضياء الدين. والذي لم تتجاوز مدته 20 دقيقة، كان من آخر أعماله الفنية، واحتوى على لمسة فنية رقيقة ومفارقة درامية مميزة، كان ذلك قبل وفاته بعامين، وبدت عليه علامات التقدم في السن، لكنه ظل محافظًا على حضوره وخفة دمه.
توفي إسماعيل ياسين في 24 مايو 1972، بعد أن ترك أكثر من 230 فيلمًا و60 مسرحية، دون أن يغيب عن ذاكرة الفن أو وجدان الجمهور، فالنجم الذي أضحكنا كان مرآة لزمن، وضمير لفن، وصوتًا للفقراء والمهمشين، صنع من الضحك وسيلة لفهم الحياة وتحملها.