في أجواء من الاحتفاء الملكي، هبطت طائرة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مطار الرياض، لتفتح صفحة جديدة في العلاقات بين واشنطن والرياض، إذ كانت هذه الزيارة بمثابة عودة سياسية صاخبة وإعلان غير مباشر عن مسارات جديدة في ملفات شائكة، تبدأ من سوريا وتنتهي عند إيران.
رفع العقوبات عن سوريا
في تطور غير مسبوق، أعلن ترامب خلال زيارته رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على سوريا، في أول خطوة أمريكية من هذا النوع منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، وجاء القرار في أعقاب ما وصفه ترامب بـ"تغير القيادة في دمشق"، مشيرًا إلى وصول "رئيس انتقالي معتدل" هو أحمد الشرع، الذي خلف الرئيس بشار الأسد في ظروف غامضة ومثيرة للجدل.
وحسب "سي إن إن"، اعتبر المحللون أن القرار ليس معزولًا عن التنسيق السعودي-التركي، ولا عن إعادة ترتيب القوى في المنطقة بعد تراجع النفوذ الإيراني في بعض المناطق السورية، ويبدو أن واشنطن، بقيادة ترامب، تسعى إلى استثمار هذا التغيير السياسي في سوريا عبر حزمة إعادة إعمار مشروطة بالتحول السياسي، بمشاركة خليجية وأوروبية محتملة.
من جهتها، رحّبت الخارجية السورية بـ"الخطوة الأمريكية الجريئة"، واعتبرتها مؤشرًا على نية واشنطن طي صفحة الحرب والانخراط في دعم عملية إعادة الإعمار، بشرط "احترام السيادة السورية"، حسب بيان رسمي.
حرب وحشية في غزة
ثم تحدث ترامب عن سياساته الداخلية في الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة سياساته الاقتصادية وقضية الهجرة، حيث تطرق إلى الخطوات التي اتخذتها إدارته للقضاء على المعابر غير الشرعية على الحدود بين أمريكا والمكسيك، وتفاخر بأن معدلات التجنيد في الجيش الأعلى منذ وصوله.
وحول الصراع الوحشي الذي تشنّه إسرائيل على المدنيين في قطاع غزة بحجة القضاء على حماس وتحرير المحتجزين، أكد ترامب أنه يعمل على إنهاء الحرب بين إسرائيل وحماس في أسرع وقت ممكن، مشيرًا إلى أنه لا يوجد مكان في العالم يعامل فيه الناس بفظاعة مثل قطاع غزة.
وشدّد الرئيس الأمريكي، على أن تحسين حياة الفلسطينيين في غزة لا يمكن أن تحدث طالما اختار قادتهم اختطاف وتعذيب واستهداف الرجال والنساء الأبرياء لأغراض سياسية على حد زعمه، مشيدًا في الوقت ذاته بالمفاوضات التي أفضت إلى إطلاق سراح المحتجز الأمريكي المزدوج الجنسية عيدان ألكسندر.
600 مليار دولار
الحدث الأبرز خلال الزيارة تمثل في توقيع حزمة اتفاقيات اقتصادية واستثمارية ضخمة بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية بقيمة تتجاوز 600 مليار دولار، تشمل صفقات أسلحة، واستثمارات في مجالات الطاقة المتجددة، والذكاء الاصطناعي، والتقنية العسكرية.
من بين أبرز هذه الاتفاقيات، صفقة أسلحة تقدر بـ142 مليار دولار، وصفها ترامب بأنها "تاريخية"، مشيرًا إلى أنها ستوفر "فرص عمل ضخمة" في الداخل الأمريكي، وتمنح السعودية قدرة دفاعية متطورة في ظل "التهديدات الإقليمية"، في إشارة واضحة إلى إيران.
كما شارك في "منتدى الشراكة الاستراتيجية"، الذي نظمه صندوق الاستثمارات العامة السعودي، عدد من كبار المستثمرين الأمريكيين، بمن فيهم إيلون ماسك، المدير التنفيذي لشركة تسلا، الذي أعلن عن خطة لإطلاق مشروع مشترك لتصنيع بطاريات سيارات كهربائية في الرياض.
إيران في مرمى التصريحات
كعادته في التصريحات الحادة، لم يتردد ترامب في مهاجمة طهران، واصفًا النظام الإيراني بـ"الراعي الأول للإرهاب في العالم"، مشيرًا إلى أن الولايات المتحدة لن تسمح لإيران أبدًا بالحصول على السلاح النووي، ومطالبًا إياها بـ"العودة الفورية إلى طاولة المفاوضات".
وبينما لم يعلن عن نية واضحة لشن عمليات عسكرية ضد إيران، قال ترامب إن "الوقت ينفد، وعلى طهران أن تختار بين السلام والانهيار"، كاشفًا عن أن سلطنة عُمان تستضيف مفاوضات غير مباشرة لإحياء اتفاق نووي "أفضل وأشمل"، حسب تعبيره.
وبحسب مصادر مقربة من الوفد الأمريكي، فإن الرياض قدمت ضمانات للجانب الأمريكي لتقديم دعم مالي واستثماري لمرحلة ما بعد الاتفاق، في حال قررت واشنطن العودة إلى مسار تفاوضي مع إيران.
حزب الله والمنطقة الرمادية
لم يغب اسم حزب الله عن خطاب ترامب، الذي قال صراحة: "أي اتفاق مع إيران يجب أن يتضمن تفكيك ميليشياتها، وعلى رأسها حزب الله، الذي يقوض أمن لبنان والمنطقة". وأضاف: "لن نسمح لإيران أن تستخدم الحزب ذراعًا مسلحة في الشرق الأوسط".
وفيما لم يصدر تعليق رسمي من الحزب، ردّت إيران عبر الناطق باسم وزارة خارجيتها معتبرة أن تصريحات ترامب "استفزازية ولا تساهم في خلق أجواء تفاوضية بنّاءة"، بينما حذّر مراقبون من أن أي ضغط إضافي على الحزب قد يؤدي إلى تصعيد في جنوب لبنان أو سوريا.
طموح يوازي النفط
زيارة ترامب هذه لم تكن فقط لتأكيد التحالف التاريخي بين الولايات المتحدة والسعودية، بل كانت أيضًا منصة لإبراز طموحات ولي العهد محمد بن سلمان، الذي يريد أن يجعل من المملكة مركزًا عالميًا للتقنية، والطاقة المتجددة، والاقتصاد الذكي.
وفي خطابه خلال منتدى الاستثمار، قال بن سلمان: "نحن لا نراهن على المستقبل، نحن نصنعه. والمملكة ستكون في قلب الاقتصاد العالمي الجديد"، مشيرًا إلى أن الشراكة مع الولايات المتحدة "تحمي المنطقة وتدفعها نحو الاستقرار والازدهار".
رسائل إلى الداخل الأمريكي
رغم أن الزيارة كانت رسمية في ظاهرها، إلا أن الكثيرين رأوا فيها انطلاقة فعلية لحملة ترامب الانتخابية الرئاسية المقبلة، وخاصة أنها تأتي قبل عام واحد فقط من الانتخابات، وفي وقت يعاني فيه الرئيس الحالي جو بايدن من تراجع في شعبيته داخل أوساط اليمين المحافظ.
وعلى وقع التصفيق الحار في الرياض، غرّد ترامب عبر منصته "تروث سوشال" قائلًا: "هكذا تُدار السياسة الخارجية.. بالقوة، والصفقات، والقيادة"، في رسالة مبطنة لناخبيه في الداخل الأمريكي.
إذا كانت سنوات الصراع الماضية قد رسمت وجهًا عبوسًا للشرق الأوسط، فإن زيارة ترامب للرياض تسعى لرسم وجه جديد، أكثر صلابة وأقل دموية، وإن لم يكن بالضرورة أكثر عدالة.
فالتحالفات تُبنى مجددًا، والمصالح تُعاد رسم خرائطها، لكن الشعوب تنتظر ما إذا كانت هذه الصفقات ستمنحها الأمان والكرامة، أم أنها مجرد فصل جديد من لعبة الكبار.