في تينِيه، البلدة الصحراوية المهملة شرق تشاد، يتكشّف مشهدٌ إنساني يشبه السراب في صحراء منسية، لا ماء يكفي، لا ظل يحمي، لا دواء يداوي، إذ لم تعد آثار الضحايا على شاشات الأخبار تظهر إلا نادرًا، فما يجري في تينيه ليس فقط أزمة لاجئين آخرين هاربين من دارفور، بل شهادة مريرة على بلدة تتعلم كيف تبدو الحياة فيها، حين تنسحب الولايات المتحدة من موقعها كقائدة للمساعدة الإنسانية العالمية.
محطة الموت البطيء
في شرق تشاد، وتحديدًا في بلدة تينيه القاحلة، تتجمّع حلقات المأساة في أول تجليات عالم "ما بعد أمريكا". فمنذ أبريل الماضي، تدفّق أكثر من 30 ألف لاجئ من إقليم دارفور السوداني إلى هذه النقطة الحدودية المهملة، هربًا من أتون الحرب والمعارك في السودان، وقد وصلوا بعد أن اجتازوا صحاري محترقة بدرجات حرارة تتجاوز 100 فهرنهايت، وفق مجلة "أتلانتيك" الأمريكية.
وصل كثيرون بلا شيء، لا متاع، ولا أمل، بل أحيانًا بلا أفراد من العائلة، إذ روى لاجئون وفق "أتلانتيك" كيف تعرّضوا للضرب والسرقة والاغتصاب أثناء فرارهم من منازلهم، وسط انهيار تام لأي شكل من أشكال الحماية أو القانون. والمصيبة الأكبر أن لا شيء كان في انتظارهم عند الوصول؛ لا مساعدات، لا تجهيزات، ولا حتى ظلّ شجرة يحتمي به أطفالهم.
وفقًا لعمّال الإغاثة على الأرض، فإن حوالي 3500 لاجئ يصلون يوميًا إلى تينيه، فيما لا يوجد سوى حفنة من العاملين الدوليين الذين بالكاد يستطيعون تسجيل الوافدين الجدد، ناهيك عن تأمين الاحتياجات الأساسية لهم. ويرتبط هذا القصور مباشرة بالتخفيضات الهائلة التي أجرتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على المساعدات الخارجية.
اللغة العربية طوق نجاة
غالبية من وصلوا إلى تينيه هم نازحون من مخيم "زمزم" في شمال دارفور، الذي كان أصلًا يُعاني من المجاعة ونقص الخدمات قبل تصعيد النزاع. ففي الأسابيع الأخيرة، شدّد الدعم السريع حصاره على مدينة الفاشر، وبدأت بقصف المخيم نفسه، ما أدى إلى موجة نزوح جماعي.
وفقًا لشهادات جمعتها المصوّرة الصحفية لينسي أداريو، التي عادت إلى المنطقة لتوثيق هذه الكارثة، فإنه يتم فرز الهاربين من "زمزم" و"الفاشر" على أساس إثني ولغوي، وقالت إحدى اللاجئات، وتُدعى فاطمة سليمان، إن جنود الميليشيا "يقتلون من لا يتحدث العربية فورًا". وأضافت أن ابنها أحمد، وهو طالب داكن البشرة، نجا لأنه يجيد اللغة، فيما قُتل أصدقاؤه أمام عينيه فقط لأنهم لم يتحدثوا بها بطلاقة.
المساعدات تنهار
في ظل هذه الفوضى، تقف المنظمات الدولية عاجزة، فحتى وإن كانت الولايات المتحدة لا تزال رسميًا أكبر مانح للمساعدات الإنسانية، فإن التخفيضات في اللوجستيات، وتقليص الموظفين، وتغييرات تمويلية مفاجئة أدّت إلى شلل شبه تام في عمليات الإغاثة.
على سبيل المثال، لا يملك الصليب الأحمر التشادي وسائل نقل لإجلاء الجرحى، كما أن برنامج الغذاء العالمي يعاني من انقطاع الإمدادات، أما مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فتقوم بتقليص عدد موظفيها بسبب عجز الميزانية. وقال جان بول هابامونجو سامفورا، ممثل المفوضية في شرق تشاد، لمجلة "أتلانتيك": "في مسيرتي المهنية التي تمتد لعشرين عامًا، لم أرَ يومًا يواجه فيه اللاجئون مثل هذا القدر الضئيل من المساعدة".
في فبراير الماضي، طُلب من المفوضية "إعادة تعريف" أولوياتها، وتم إسقاط توفير المأوى من قائمة "الأنشطة المنقذة للحياة"، وهذا يعني ببساطة أن آلاف الأشخاص الذين فروا من الجحيم، لا يحق لهم حتى الحصول على سقف مؤقت فوق رؤوسهم. ويضيف سامفورا بنبرة مريرة: "أُبلغ بعض موظفينا بأن وظائفهم ستنتهي في يونيو، لكن الأزمة لن تنتهي في يونيو".
الاعتماد على المتطوعين
في ظل تقاعس الحكومات والمؤسسات الكبرى، أخذت المجموعات السودانية المحلية زمام المبادرة، فيما عُرف بـ"غرف الاستجابة للطوارئ"، وهي حركة تعاونية محلية بدأت في جمع التبرعات من الجاليات السودانية بالخارج لتأمين وجبات الطعام للاجئين. وعلى الرغم من جهودهم الهائلة، إلا أن ارتفاع عدد النازحين قد يُغرقهم في أي لحظة ما لم تتوفر لهم موارد إضافية.
أفاد شهود عيان من تينيه أن البعض ماتوا عطشًا في طريقهم، وأن أطفالًا يعانون من سوء تغذية حاد وصلوا إلى البلدة في حالة صحية مزرية. وهذه شهادة دامغة على فشل كل أشكال الاستجابة الرسمية الدولية.
اللامبالاة العالمية
في وقت تهيمن فيه الحرب في أوكرانيا والمجازر في غزة على عناوين الأخبار، يمرّ السودان من دون صدى حقيقي، فقد شرّد النزاع هناك عددًا من الناس يفوق ما خلّفته أزمات أوكرانيا وغزة مجتمعين. ورغم ذلك فإن صور الأطفال الهزالَى في تينيه لا تحظى بالاهتمام ذاته، وفق مجلة "أتلانتيك".
ينقل تقرير "أتلانتيك" هذا التناقض الصارخ كمرآة لما آل إليه الوضع الدولي بعد تقهقر القيادة الأمريكية، إذ تخلّت واشنطن عن دورها التقليدي في توجيه الاستجابة الإنسانية، وتُركت الفراغات لتملأها الكارثة.
هذا التقهقر لا يُجسّد فقط تخلّي الولايات المتحدة عن دعم الخارج، بل أيضًا مؤشّر على انهيار منظومة ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي كانت واشنطن ركيزتها. فإن اللاجئين في تينيه، كما يقول التقرير، ليسوا فقط ضحايا حرب أهلية، بل شهودًا على ولادة نظام عالمي جديد، أقل إنسانية، وأكثر تجاهلًا.
تحذير لا يجب تجاهله
إنّ ما يحدث في دارفور ليس مجرد مأساة عابرة في بلد أفريقي بعيد، بل تذكير قاسٍ لما يحدث عندما تنسحب الدول الكبرى من مسؤولياتها الأخلاقية والإنسانية. ففي غياب القيادة، لا تسود فقط الفوضى، بل يعمّ الجوع والموت والصمت.
قد تكون صور الأطفال الذين يموتون عطشًا في تينيه هي نذير عصرٍ جديد؛ عصرٌ لا تقوده أمريكا، ولا تحكمه القيم، بل تسيّره المصالح والانكفاء والبرود.