في لحظة فارقة من التاريخ الكاثوليكي، انكسر تقليد دام قرونًا بتتويج أول بابا من مواليد الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ليو الرابع عشر، المعروف سابقًا باسم الكاردينال روبرت فرانسيس بريفوست.
هذا التغيير لم يمر بهدوء، إذ فجّرت كتابات البابا الجديد السابقة على مواقع التواصل الاجتماعي المنتقدة بصراحة للإدارة الأمريكية، وخاصة إدارة دونالد ترامب ونائبه جيه دي فانس، نقاشًا حادًا بين أنصاره ومعارضيه، مسلطًا الضوء على التوتر المزمن بين السياسة والدين.
سجال من نوع آخر
وحسب مجلة "رولينج ستون" الأمريكية، فإنه مع انتخاب الكاردينال الأمريكي روبرت بريفوست بابا جديدًا للكنيسة الكاثوليكية في مايو 2025، تحت اسم ليو الرابع عشر، دخلت المؤسسة الدينية في لحظة غير مسبوقة، بعدما استغرق مجمع الكرادلة يومين فقط لاختيار خليفة للبابا الراحل فرنسيس، وكانت المفاجأة أن الفائز لم يكن من أبرز الأسماء المتوقعة.
رغم ذلك، بدا أن للبابا الجديد صدىً واضحًا في عالم التواصل الرقمي، فبريفوست، المعروف بنشاطه عبر منصة X (تويتر سابقًا) منذ عام 2011، لم يكن يخفي آراءه السياسية، وخاصة تجاه السياسات الأمريكية التي رآها مناقضة لتعاليم المسيح، حسب "رولينج ستون".
في عام 2015، أعاد بريفوست نشر مقال ينتقد "الخطاب المعادي للهجرة" الذي تبناه ترامب في حملته الانتخابية، واصفًا إياه بـ"الإشكالي"، كما أشار -في منشورات لاحقة- إلى أن محاولات تبرير هذه السياسات من منطلقات دينية "تشوه جوهر المسيحية".
انتقاد جيه دي فانس
وفي فبراير 2025، وقبل أسابيع فقط من انتخابه بابا، وحسب مجلة "بيبول" الأمريكية، نشر بريفوست مقالتين عبر حسابه الرسمي تنتقدان نائب الرئيس الأمريكي جيه دي فانس، الذي اعتنق الكاثوليكية لاحقًا، كانت المقالة الأولى ردًا على تصريحات أدلى بها فانس لقناة "فوكس نيوز"، زعم فيها أن "حب القريب" في المسيحية يجب أن يكون خاضعًا لترتيب الأولويات الوطنية، وكان رد بريفوست حادًا، إذ كتب: "يسوع لا يطلب منا تقييم حبنا للآخرين".
أما المقالة الثانية، فركزت على سوء استخدام فانس لمفهوم "ordo amoris" الكاثوليكي أو "نظام الحب"؛ لتبرير السياسات المعادية للمهاجرين التي تبنتها إدارة ترامب.
ونشر هذه المقالات مستخدمًا اسمه الشخصي روبرت بريفوست، دون أن يتخلى عن منصبه الكنسي أو الحذر في صياغته، لكنه لم يُخفِ انزعاجه من التفسيرات الملتوية للدين لتبرير الرفض والإقصاء.
وداع معقد في الفاتيكان
قُبيل وفاة البابا فرانسيس في 21 أبريل 2025، تمكن نائب الرئيس الأمريكي فانس من زيارته في لقاء خاص، ورغم أن البابا الراحل رفض في البداية منحه مقابلة، إلا أنه وافق لاحقًا، ربما إدراكًا لثقل اللحظة، وكتب فانس على حسابه بعد اللقاء: "كنت سعيدًا برؤيته بالأمس، رغم أنه كان مريضًا للغاية، كان الأمر جميلًا حقًا".
لكن الرواية العلنية للزيارة لم تُخفِ الخلفية المتوترة بين الرجلين، ولا الانتقادات المتكررة التي وجهها البابا فرنسيس –ومعه بريفوست– لسياسات فانس المعادية للمهاجرين، وسعيه للشرعنة الدينية لتلك الممارسات.
رد فعل سريع وعدائي
رد الفعل اليميني الأمريكي على انتخاب بريفوست كان سريعًا وعدائيًا في أغلبه، إذ وصفت لورا لومر، الناشطة اليمينية المعروفة بنظرياتها التآمرية، بـ"دمية ماركسية في الفاتيكان"، بينما اتهمه شون ديفيس، مؤسس موقع "ذا فيدراليست"، باستخدام الكنيسة لمهاجمة الشعبوية الوطنية وترامب على وجه الخصوص.
وكتبت المعلقة اليمينية ميجين كيلي منشورًا ساخرًا تساءلت فيه: "هل من المبالغة أن نأمل أن يكون هناك شاب في العشرين من عمره يدير حساب البابا على X ولم ينظر فيه قط؟".
منشورات بريفوست السابقة، التي تناولت مواضيع مثل مراقبة الأسلحة، وتغير المناخ، وعقوبة الإعدام، وحتى قضية جورج فلويد، جعلته هدفًا لتهم اليسارية والليبرالية، رغم مواقفه الكاثوليكية المحافظة في مواضيع أخرى مثل الإجهاض والدعوة لإلغائه، حسب مجلة "رولينج ستون" الأمريكية.
انتقاد ترامب
لم تكن منشورات بريفوست خالية من الروح الدينية، بل عبّرت عن روحٍ لاهوتية متجذّرة في الدعوة للعدالة، ففي عام 2025، انتقد ترامب ونظيره السلفادوري نجيب بوكيلي بسبب ترحيل واحتجاز المهاجر كيلمار أبريجو جارسيا، ونشر مقالًا على موقع "كاثوليك ستاندرد" يشبّه معاناة اللاجئين بآلام المسيح.
وفي 2013، أعاد نشر كاريكاتير يُظهر البابا فرنسيس أمام لافتة تقول "الجشع ليس جيدًا"، محاطًا برجال أعمال غاضبين يحملون حقائب كُتب عليها "وول ستريت" و"البنوك" و"الشركات الكبرى"، ما أثار سخط التيارات الرأسمالية.
كما أظهر بريفوست دعمًا واضحًا لحماية البيئة، ووقّع على "العريضة الكاثوليكية للمناخ"، وأعاد تغريد دعوات لرفض الكراهية العنصرية بعد مظاهرة شارلوتسفيل، وكتب صلوات من أجل جورج فلويد، داعيًا الكنيسة إلى "رفض العنصرية والسعي إلى العدالة".
التزام بالدبلوماسية رغم الماضي
رغم الانتقادات السابقة، اختار كل من ترامب وفانس التزام لهجة دبلوماسية بعد انتخاب بريفوست، وكتب ترامب عبر منصة "تروث سوشيال": "تهانينا للكاردينال روبرت فرانسيس بريفوست، إنه لشرف عظيم أن يكون أول بابا أمريكي. يا له من حماس، وشرف عظيم لبلدنا".
وكان ترامب ألمح سابقًا إلى تفضيله لكاردينال آخر –على الأرجح تيموثي دولان من نيويورك– عندما قال مازحًا للصحفيين: "لدينا كاردينال من نيويورك، وهو بارع جدًا".
دولان، بدوره، شارك بفاعلية في مراسم تنصيب ترامب الثانية، كما ترأس جنازة البابا فرنسيس في كاتدرائية القديس باتريك بمدينة نيويورك، ما يعكس التداخل المتزايد بين الدين والسياسة في المشهد الأمريكي.
الخطاب الأول للبابا ليو الرابع عشر
في خطابه الأول، دعا البابا ليو الرابع عشر إلى السلام والوحدة، مؤكدًا أهمية الرحمة والتضامن مع المهاجرين والمهمشين، وأشاد بإرث سلفه البابا فرنسيس، داعيًا إلى كنيسة منفتحة وشاملة، وفق "ديلي ميل".
مواقفه الصريحة والجريئة من قضايا سياسية واجتماعية معاصرة مع بداية حبريته، يترقب العالم كيف سيقود البابا الجديد الكنيسة في ظل التحديات الراهنة، ومدى تأثير مواقفه على العلاقة بين الكرسي الرسولي والسياسة العالمية.