في مسرح الحرب المفتوح بين روسيا وأوكرانيا، لا تقتصر المعارك على الدبابات وأزيز الطائرات فحسب، بل تمتد لتشمل صراعًا من نوع آخر هو صراع على الأرقام، والضحايا، والحقائق المدفونة تحت ركام المعارك والمقابر الجماعية.
ومن بين دخان الصواريخ والغبار المتناثر، تتعالى أصوات السياسيين وتحليلات المراكز البحثية، لكن الصمت يخيّم على القبور الجديدة التي تُحفر كل يوم، في هذه الحرب التي تقترب من عامها الرابع، إذ يبدو أن الحقيقة الأكثر رعبًا ليست في ما يُقال، بل في ما يُخفى.
تصاعد في وتيرة الدم
في أعقاب الهجوم الأعنف على كييف منذ صيف 2023، الذي أودى بحياة 13 مدنيًا، خرج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن صمته، مغردًا: "فلاديمير، توقف! 5000 جندي يُقتلون أسبوعيًا، فلنُبرم اتفاق السلام!"، كانت هذه التصريحات كافية لإثارة جدل واسع، لا سيما أن ترامب لم يقدّم دليلًا يدعّم هذا الرقم المرتفع.
رغم مبالغته الظاهرة، وجد تصريحه صدى في أوساط الإعلام والسياسة، خصوصًا في ظل الغموض الذي يلف الأرقام الرسمية للضحايا من كلا الجانبين، فلا روسيا أو أوكرانيا تعلنان خسائرهما العسكرية بدقة، ما جعل الباب مفتوحًا أمام التقديرات والتحليلات المتضاربة.
الأرقام بين السرية والتوثيق
رغم حرص موسكو وكييف على اعتبار أرقام القتلى من الأسرار العسكرية، تمكنت بعض المؤسسات المستقلة من رصد أعداد القتلى بناءً على مصادر مفتوحة، وبحسب تحقيق أجرته شبكة "بي بي سي روسيا" بالتعاون مع منصة "ميديازونا"، تم توثيق أسماء أكثر من 106,745 جنديًا روسيًا قُتلوا منذ بدء الغزو في فبراير 2022.
وتشير هذه الجهات إلى أن الرقم الفعلي قد يتراوح بين 164,223 إلى 237,211 قتيلًا، اعتمادًا على نسبة التغطية التي تقدر ما بين 45% إلى 65%.
أما هيئة الأركان الأوكرانية فتنشر يوميًا تقديراتها لخسائر روسيا، وتبلغ الحصيلة المعلنة حتى 30 أبريل 2025 نحو 951,960 من القتلى والجرحى، غير أن الهيئة لم تفصّل هذه الأرقام، ما يُصعّب التحقق من دقتها.
ووفقًا لتقرير صادر عن وزارة الدفاع البريطانية في ديسمبر 2023، فإن روسيا قد تخسر أكثر من 500 ألف جندي بين قتيل وجريح بحلول عام 2025 إذا استمرت الخسائر بالمعدل الحالي. وقد ارتفع متوسط العدد اليومي للمصابين أو القتلى من القوات الروسية إلى 300 في اليوم على مدار عام 2023، مقارنة بالعام السابق.
الخسائر الأوكرانية
على الجانب الأوكراني، كانت كييف أكثر تحفظًا بشأن إعلان خسائرها، تتفاوت التقديرات حول حجم الخسائر البشرية، في فبراير 2024، أعلن وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو أن الجيش الأوكراني فقد 440,000 جندي منذ بداية الحرب، إلا أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي صرّح في ديسمبر 2024 بأن بلاده فقدت نحو 43,000 جندي في الحرب، وأن 370,000 جندي أُبلغ عن إصابتهم.
وتشير تقارير نشرتها "نيويورك تايمز" و"وول ستريت جورنال"، إلى أرقام أعلى، وصلت إلى 70,000 و80,000 قتيل على التوالي، وقد نفت كييف هذه التقديرات، في حين يصعب التحقق من صحتها بسبب غياب مصادر محايدة.
2024 عام الموت
بحسب تقرير لـ"بي بي سي" نُشر مطلع 2025، كان عام 2024 الأكثر دموية بالنسبة للجيش الروسي منذ بدء الغزو، إذ بلغ عدد القتلى فيه 45,287 جنديًا، وفقًا لما توصلت إليه "بي بي سي روسيا" و"ميديازونا" من تحليل لمقابر رسمية ونُصب تذكارية وبيانات نعي.
ويبدو أن القتال كان أشد ضراوة بين سبتمبر ونوفمبر 2024، حيث قُتل 11,678 جنديًا روسيًا خلال تقدم الجيش الروسي في الشرق، وفقًا لتحليل مايكل كوفمان، المحلل العسكري البارز، واستند هذا التقدم إلى بيانات معهد دراسات الحرب، التي أفادت بأن روسيا استولت على 2,356 كيلومترًا مربعًا خلال هذه الفترة، أي ما يعادل مقتل 27 جنديًا روسيًا عن كل كيلومتر مربع.
وإذا ما أُضيفت خسائر القوات الروسية المتحالفة مع موسكو في جمهوريتي دونيتسك ولوجانسك الانفصاليتين، فإن العدد قد يرتفع إلى ما بين 185,000 و260,700 قتيل، بحسب تقديرات نشرها التقرير ذاته.
معارك أكثر دموية
شهدت مناطق متعددة في شرق أوكرانيا معارك عنيفة أسفرت عن ارتفاع كبير في عدد الضحايا، خاصة في باخموت وأفدييفكا وبوكروفسك.
في يناير 2024 وحده، قُتل نحو 7,000 جندي روسي وجُرح 8,000 آخرين في محيط بوكروفسك، حسبما أفاد القائد العام للقوات المسلحة الأوكرانية أوليكساندر سيرسكي.
وبحسب "بي بي سي"، لم يعد هناك نمط "موجي" في وتيرة القتال كما في العامين الأولين من الحرب، بل باتت وتيرة الموت مستمرة وثابتة دون فترات من التراجع.
بالتزامن مع التصعيد العسكري، تواصلت محادثات السلام التي أطلقتها إدارة ترامب، لكنّها ترافقت مع تصعيد دموي على الأرض، وفقًا لما ذكرته صحيفة "نيويورك تايمز" نقلًا عن تحليل الأمم المتحدة، إذ تميل الجيوش المتحاربة إلى تعزيز مكاسبها قبل توقيع أي هدنة.
وفي هذا السياق، اقترح فلاديمير بوتين وقفًا لإطلاق النار بمناسبة عيد الفصح الأرثوذكسي وذكرى انتهاء الحرب العالمية الثانية، لكن هذه المبادرات لم تثمر عن تقدم سياسي فعلي، رغم انخفاض مؤقت في حدة الاشتباكات.
4694 صاروخًا في 30 يومًا
بعد مكالمة هاتفية بين ترامب وبوتين ثم زيلينسكي في فبراير الماضي تصاعدت وتيرة الهجمات الروسية بشكل ملحوظ، فقد أطلقت موسكو خلال الثلاثين يومًا التالية 4694 صاروخًا وطائرة مسيّرة على أوكرانيا، مقارنة بـ1873 فقط في الثلاثين يومًا السابقة، وفقًا لتحليل لتقارير القوات الجوية الأوكرانية.
وهو ما دفع ترامب لاحقًا إلى نشر تعليق على وسائل التواصل الاجتماعي، قال فيه: "هذا يجعلني أفكر أنه ربما لا يريد وقف الحرب"، في إشارة إلى بوتين.
خسائر المدنيين
لم تقتصر الخسائر على الجنود فقط، بل امتدت لتشمل المدنيين، وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، قُتل أكثر من 11,700 مدني وأصيب أكثر من 24,600 آخرين منذ بداية الحرب، ويُعتقد أن العدد الحقيقي قد يكون أعلى بكثير، خاصة في المناطق التي يصعب الوصول إليها مثل ماريوبول.
وفي أبريل 2025، قُتل أو جُرح 848 مدنيًا في الأيام الأربعة والعشرين الأولى من الشهر، بزيادة قدرها 46% عن الفترة نفسها من العام الماضي، وفقًا للأمم المتحدة.
خسائر اقتصادية
تسببت الحرب في خسائر اقتصادية فادحة لكلا البلدين. تقلّص الاقتصاد الأوكراني بمقدار الثلث في عام 2022، ورغم تحسن طفيف في العامين التاليين، ما زال الاقتصاد يمثل أقل من 80% من حجمه قبل الحرب. وقدرت الحكومة الأوكرانية والبنك الدولي التكلفة الإجمالية لإعادة الإعمار والتعافي بنحو 486 مليار دولار بنهاية عام 2023.
أما روسيا، فقد فقدت نحو 121,042 قطعة من المعدات بقيمة 16.56 مليار دولار منذ بداية الحرب، وفقًا لتقديرات مجلة "فوربس" الأمريكية. كما أضرت العقوبات الغربية بالصناعة الدفاعية والعسكرية في موسكو، ما أدى إلى نقص في الإمدادات الحيوية لمحركات الديزل والمروحيات وأجزاء محركات الطائرات والدبابات المدرعة.