تشهد الساحة الاقتصادية العالمية حربًا تجارية متصاعدة بين الولايات المتحدة والصين، مع تبادل الرسوم الجمركية التي تتجاوز في بعض الحالات 100%.
وفي هذا الصدد تشير صحيفة "بوليتيكو"، إلى أنه وسط هذه المعركة الاقتصادية بين العملاقين، يجد الاتحاد الأوروبي نفسه في موقف فريد قد يمكنه من تحقيق مكاسب غير متوقعة إذا أحسن استغلال الفرص المتاحة.
ثلاث قوى اقتصادية
يشهد الاقتصاد العالمي اليوم انقسامًا واضحًا إلى ثلاثة كتل متمايزة، وهي الولايات المتحدة والصين وأوروبا.
وفي هذا السياق، فإن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشن حرب تجارية ضد بقية العالم، مع تركيز العقوبات على الصين كعدو رقم واحد، يمنح الاتحاد الأوروبي فرصة استثنائية للبروز كقوة اقتصادية موثوقة.
كما صرّح محافظ بنك فرنسا، فرانسوا فيلوروا دي جالهو، لوسائل إعلام فرنسية: "لدينا شخص يسجل أهدافًا في مرماه، وهو السيد ترامب".
وتوضح المجلة أن هذه "الأهداف الذاتية" التي تسجلها الإدارة الأمريكية تفتح المجال لأوروبا للاستفادة، لكن التحدي الحقيقي يكمن في كيفية استغلال هذه الفرصة بشكل فعّال واستراتيجي.
تحديات أوروبية
خرج الاتحاد الأوروبي من جائحة كوفيد-19 وأزمة الطاقة الناجمة عن الحرب الروسية-الأوكرانية في وضع صعب، إذ بلغ متوسط النمو الأوروبي نصف ما حققته الولايات المتحدة فقط، وشهدت ألمانيا، أكبر اقتصاد أوروبي، موجة من إغلاق المصانع وانهيار قطاعات الصلب والسيارات.
رغم أن السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي تتيح نظريًا للشركات الوصول إلى قرابة 450 مليون مستهلك، فإن الواقع يكشف عن سوق مجزأة مع بنية تشريعية بطيئة ومتصلبة، لكن الحرب التجارية الحالية بين واشنطن وبكين قد تكون نقطة تحول للقارة العجوز.
مؤشرات إيجابية
تظهر عدة مؤشرات اقتصادية تحولًا إيجابيًا لصالح أوروبا، إذ ارتفعت قيمة اليورو بنسبة 10% مقابل الدولار هذا العام مع تخلي المستثمرين عن العملة الأمريكية لصالح بدائل أكثر استقرارًا.
والأكثر إثارة للاهتمام هو سلوك المتداولين في أسواق السندات، حيث قاموا ببيع الديون الأمريكية بعد إعلان ترامب عن الرسوم الجمركية، وهرعوا إلى السندات الأوروبية بحثًا عن الأمان.
وفقًا لتوقعات صندوق النقد الدولي، تم تخفيض توقعات النمو الأمريكي لعام 2025 بمقدار 0.9 نقطة مئوية بسبب الرسوم الجمركية، وتم خفض توقعات الصين بمقدار 0.6 نقطة مئوية، بينما خرجت منطقة اليورو بأضرار طفيفة نسبيًا، بانخفاض قدره 0.2 نقطة مئوية فقط، ما يشير إلى صمود أكبر للاقتصاد الأوروبي في مواجهة الاضطرابات التجارية العالمية.
تعزيز التنافسية العالمية
بدأت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين فترة ولايتها الثانية بالتأكيد على ضرورة تعزيز القدرة التنافسية للاتحاد.
وفي تصريحات لـ"بوليتيكو"، أشارت فون دير لاين إلى الفرص المتاحة: "في بيئة عالمية غير متوقعة بشكل متزايد، تصطف الدول للعمل معنا".
تأتي هذه الاستراتيجية في وقت حرج، فبينما كانت أمريكا تهيمن على قطاع التكنولوجيا بفضل أسواقها المالية المتطورة وجامعاتها البحثية الرائدة، وبينما سيطرت الصين على التصنيع المتطور في مجالات الطاقة النظيفة والسيارات الكهربائية والروبوتات، تسعى أوروبا الآن إلى تحديد موقعها في هذا المشهد المتغير.
فرص التجارة العالمية
مع ارتفاع الرسوم الجمركية بين واشنطن وبكين إلى مستويات غير مسبوقة، تبرز فرصة للشركات الأوروبية لاستهداف أسواق جديدة، إذ إن الرسوم الجمركية الأمريكية على الواردات الأوروبية، رغم ارتفاعها، لا تزال أقل بكثير من تلك المفروضة على المنتجات الصينية.
يقول لودوفيك سوتور-سوريل، رئيس شبكة السياسات الاقتصادية الكلية الأوروبية: "يمكن أن تفتح حرب تجارية طويلة الأمد بين الولايات المتحدة والصين أسواق مبيعات جديدة للشركات الأوروبية"، إذ إن الصين تعتمد بالفعل على المنتجات الأوروبية في فئات مثل المواد الكيميائية ومعدات النقل، كما يمكن أن يزداد الطلب الأمريكي على السلع الصناعية الأوروبية التي كان يشتريها سابقًا من الصين، مثل الآلات والبلاستيك والمنسوجات.
في الوقت نفسه، تتبنى أوروبا بشكل متزايد سياسة تجارية منفتحة على العالم، حيث إن المفاوضات التجارية مع تكتل ميركوسور في أمريكا الجنوبية، التي بدأت عام 1999، أثمرت أخيرًا اتفاقًا سياسيًا في ديسمبر الماضي، كما يجري الاتحاد الأوروبي محادثات مع الهند، وتسعى المفوضية الأوروبية لإتمامها بحلول نهاية العام.
اليورو منافس للدولار
تفتح الاضطرابات الحالية في النظام المالي العالمي نافذة فرص جديدة لليورو ليبرز كعملة عالمية بديلة، في هذا الصدد كتب ديفيد فولكرتس-لانداو، كبير الاقتصاديين في دويتشه بنك: "يواجه العالم أزمة ثقة في الدولار مع استمرار تداعيات 'يوم التحرير'"، واصفًا الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب بأنها "أكبر صدمة للنظام المالي والتجاري العالمي" منذ عام 1971.
على عكس الصين، يسمح الاتحاد الأوروبي للرأسمال بالتدفق بحرية عبر حدوده، كما يتميز باستقرار مؤسساته وسيادة القانون.
وكما يتساءل نيكولاس فيرون من مركز بروجل: "إذا انهارت الثقة في الدولار، إلى أين سيتجه الناس؟ اليورو يأتي في المقدمة".
حثت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاجارد قادة الاتحاد الأوروبي على المضي قدمًا في إصلاحات قطاعي البنوك والأسواق المالية، ما قد يجعل المنطقة وجهة أكثر جاذبية لرأس المال العالمي ويخفض تكاليف الاقتراض للشركات الأوروبية.
مخاطر على الطريق
رغم الفرص المتاحة، تواجه أوروبا تحديات كبيرة، إذ إن الرسوم الجمركية ستؤثر سلبًا على النمو الأوروبي، وإذا انزلق الاقتصاد العالمي إلى ركود، قد يهرب المستثمرون إلى الأصول الأمريكية كما حدث خلال الأزمة المالية عام 2007.
كما أن استفادة أوروبا تعتمد على قدرتها على مقاومة الضغوط الأمريكية لقطع العلاقات مع الصين.
وقد يؤدي ارتفاع قيمة اليورو إلى الإضرار بالصادرات الأوروبية، خاصة في ألمانيا التي تعاني بالفعل من ضعف في قطاعها الصناعي.