مع تجميد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب معظم الرسوم الجمركية التي كان يعتزم فرضها على دول العالم، باستثناء الصين التي باتت الآن محور حرب تجارية متصاعدة، لا تزال التطورات الدراماتيكية التي هزَّت الأسواق العالمية قائمة، لكن على جانب آخر هناك العديد من الفائزين والخاسرين في هذه الحرب.
وبحسب صحيفة "ذا هيل" الأمريكية، جاء تراجع ترامب عن الرسوم الجمركية الواسعة بعد أيام من الخسائر الفادحة في أسواق المال، إذ تم محو تريليونات الدولارات من قيمة الأسهم الأمريكية، وبدأت أسواق السندات تومض بإشارات تحذيرية، فيما أطلق قادة الأعمال صيحات إنذار بشأن احتمال حدوث ركود اقتصادي.
وحتى ترامب نفسه، المعروف بعدم اعترافه بأي تراجع، أشار إلى أن المستثمرين كانوا "يصابون بالهلع"، كما أوضح أنه كان يراقب شخصيًا تحركات سوق السندات.
شهدت الأسواق انتعاشًا هائلًا الأربعاء الماضي عقب الإعلان عن تجميد الرسوم، لكنها انخفضت بشكل حاد مرة أخرى أمس الخميس، مع تنامي المخاوف بشأن الوضع المتأزم مع الصين.
التصعيد مع الصين
على الرغم من تراجع ترامب عن فرض رسوم جمركية شاملة على معظم دول العالم، إلا أن الموقف مع الصين أخذ منحى مختلفًا تمامًا، إذ بلغ إجمالي الرسوم الجمركية الأمريكية على الصين نسبة 145%، فيما سعت بكين إلى الانتقام برفع رسومها على الواردات الأمريكية إلى 125% في الساعات الأولى من اليوم الجمعة.
تصر بكين على أنها لن تتراجع في مواجهتها مع ترامب، إذ وعدت وزارة التجارة الصينية بأنها مستعدة "للقتال حتى النهاية"، بل إن متحدثًا باسم الحكومة شارك بعض اللقطات الحربية للرئيس ماو تسي تونج، مؤسس جمهورية الصين الشعبية وزعيمها التاريخي، على وسائل التواصل الاجتماعي للتأكيد على هذه النقطة.
الرابحون
برز سكوت بيسنت وزير الخزانة الأمريكي في موقع أقوى داخل دائرة ترامب خلال الأسبوع الماضي، وعلى الرغم من أنه لم يقترب مطلقًا من الانشقاق علناً عن الرئيس، إلا أنه كان بوضوح زعيم الفصيل المتشكك في مستويات الرسوم الجمركية الشاملة والصارمة.
وأشارت صحيفة "نيويورك تايمز" إلى أن وزير الخزانة بدا أنه اكتسب نفوذًا داخليًا خلال عطلة نهاية الأسبوع، عندما سافر مع ترامب على متن الطائرة الرئاسية، مؤكدًا الحاجة إلى الوضوح للأسواق المالية وناصحًا الرئيس "بالتركيز على التفاوض مع الدول الأخرى".
بيسنت، الذي عمل سابقًا في إدارة صناديق التحوط كان من المرجح دائمًا أن يكون أكثر تشككًا بشأن الحماية المفرطة التي دعا إليها البعض في محيط ترامب.
وحتى بعد أن فاز النهج الأكثر اعتدالًا، ظل بيسنت مخلصًا حين أخبر الصحافة: "فيما يتعلق بترامب، كانت هذه استراتيجيته طوال الوقت".
منتصر في معركة النفوذ
جاء الملياردير إيلون ماسك كقصة فرعية في دراما الرسوم الجمركية، إذ دخل رجل الأعمال في معركة شرسة مع بيتر نافارو، الاقتصادي ومساعد ترامب الأكثر ارتباطًا بالمواقف الحِمائية القصوى.
بعد أن ادعى نافارو أن ماسك لديه مصلحة في التجارة الأكثر حرية بسبب شركة تسلا -التي وصفها الاقتصادي بأنها "شركة تجميع سيارات" وليست مصنّعًا حقيقيًا- وصف ماسك نافارو بأنه "أحمق".
وإلى جانب ذلك، كان ماسك شخصية رئيسية أخرى غير مرتاحة بوضوح لنظام الرسوم الجمركية الضخم، فوسط التوترات بين ترامب والاتحاد الأوروبي، أعرب ماسك علنًا عن رغبته في إنشاء منطقة للتجارة الحرة عبر الأطلسي.
وخرج ماسك في الجانب الفائز من النقاش الداخلي، تمامًا مثل بيسنت.
الديمقراطيون
يحقق حزب المعارضة فوزًا افتراضيًا هنا، إذ تعرض الديمقراطيون لهزة عنيفة بسبب فوز ترامب في نوفمبر الماضي، والنقاشات الداخلية حول اتجاههم المستقبلي، واستطلاعات الرأي التي تُظهر تراجع تصورات الحزب.
لكن الآن يُنظر إلى ترامب على أنه ارتكب أول خطأ كبير يمكن أن يضره بشدة مع الناخبين في الوسط السياسي، إذ أظهرت استطلاعات الرأي أن الرسوم الجمركية غيّرت شعبية الديمقراطيين على نطاق واسع، بينما تآكلت معدلات موافقة ترامب بسرعة.
وللمرة الأولى منذ تولي الرئيس منصبه في يناير، بات لدى الديمقراطيين بعض الأمل للتقدم سياسياًً
وول ستريت تهتز
كانت رحلة متعرجة للمستثمرين والمؤسسات المالية في وول ستريت، إذ تم كسر عدة أيام متتالية من الانخفاضات الحادة الأربعاء الماضي، بواحد من أكبر المكاسب اليومية في تاريخ وول ستريت، ثم انخفضت الأسواق مرة أخرى أمس الخميس.
المؤشرات الرئيسية تقع الآن تقريبًا في منتصف الطريق بين المستويات التي كانت تتمتع بها قبل إعلان ترامب عن "يوم التحرير" للرسوم الجمركية والقيعان التي وصلت إليها في الأيام التالية.
يمكن لـ"وول ستريت" أن تستمد بعض الراحة من حقيقة أن الأصوات المؤثرة لعبت دورًا في دفع ترامب لتغيير المسار، لكن الطريق أمامها لا يزال وعرًا ما لم تتم معالجة التوترات مع الصين.
قلق متنامٍ
كان هناك عدم ارتياح واضح بين أجزاء من الحزب الجمهوري تجاه رسوم ترامب الجمركية منذ البداية، إذ أعرب بعض الجمهوريين عن الأمل في أن يتم تخفيف الرسوم الجمركية قريبًا، بينما انضم آخرون في مجلس الشيوخ إلى جهود لاستعادة السلطة على هذه القضية من البيت الأبيض.
إذا تحسنت الأسواق من هنا، فقد يكون الضرر الذي لحق بالحزب الجمهوري ضئيلًا، إلا أن التقلبات لم تختف من الأسواق بعد، وهذا يخلق أيضًا عدم يقين بشأن المستقبل السياسي للجمهوريين في ظل استراتيجية ترامب الاقتصادية المثيرة للجدل.
الخاسرون الرئيسيون
أشارت "ذا هيل" إلى أن حِمائية نافارو بدا أنها وجدت مؤيدًا في شخص الرئيس، إذ إنه في مرحلة ما، ربما بدا ذلك بمثابة تصديق لفكر نافارو.
لكن هذا تهاوى إلى حد كبير الآن بعد أن جمَّد ترامب الرسوم الجمركية، إذ إن الرئيس احتفظ برسوم جمركية بنسبة 10% ويبحث على ما يبدو في حلول "مخصصة" للدول الأخرى، لكن النظرية الأكثر ارتباطًا بنافارو -القائلة إن الرسوم الجمركية العقابية طويلة الأمد ذات النطاق والمدة الكافية ستجبر على إعادة ولادة التصنيع الأمريكي- يبدو أنها تتلاشى في البعيد مرة أخرى.
أكبر متضرر
لا شك في أن حربًا تجارية طويلة ستضر بالولايات المتحدة وكذلك الصين، إذ إن بكين تورد سنويًا هواتف محمولة بقيمة نحو 64 مليار دولار، وألعاب بقيمة 30 مليار دولار، ومنسوجات وملابس بقيمة 20 مليار دولار، وفقًا لآخر الأرقام، في حين ستؤدي الرسوم الجمركية إما إلى رفع أسعار هذه المنتجات للأمريكيين وإما ببساطة تقليل توافرها.
ومع ذلك، من المرجح أن يكون الضرر الذي سيلحق بالصين أكبر، فصادراتها إلى الولايات المتحدة تعادل ثلاثة أضعاف وارداتها تقريبًا.