لم يعد الصيف في غزة ينتظر شمسه الحارقة ليعلن حضوره، فقد سبقه العطش إلى خيام النازحين ومنازلهم المدمّرة، واختلط الغبار الملتهب بنداءات الأطفال الظامئين، في مشهد تتكسر فيه أدنى مقومات الحياة على صخرة الحصار والدمار الذي فرضها الاحتلال الإسرائيلي على القطاع.
هكذا يمضي الصيف قبل أوانه، وتشتد الحرب على أجسادهم النحيلة دون أن تُطلَق رصاصة واحدة، فيكفيهم فقط أن يحرموهم من الماء، إذ صار الماء حلمًا باهظ الكلفة في القطاع المنكوب، وأضحى الشرب والاغتسال ترفًا بعيد المنال.
عطش ينهش الأجساد
يعاني قطاع غزة من أزمة مياه خانقة فاقمتها الحرب الإسرائيلية المتواصلة منذ السابع من أكتوبر 2023، حيث يعاني المواطنون والنازحون على حد سواء من نقص حاد في مياه الشرب والاستخدام اليومي، وسط تدهور خطير للبنية التحتية وشبه انعدام لمصادر الطاقة.
ورغم أن حرّ الصيف لم يبلغ ذروته بعد، فإن العطش سبق موسمه وفرض على سكان القطاع واقعًا مريرًا، فهم يعيشون تحت رحمة مياه ملوثة أو شحيحة أو تباع بأسعار خيالية، بينما تتلاشى مظاهر الحياة الآدمية في بقايا خيام ومنازل منهارة، تأكلها شمس الظهيرة دون أن تجد قطرة ماء تبردها.
إغلاق المعابر وتعطيل الآبار
ووفق ما نقلته وكالة "وفا" الفلسطينية، تعمّد الاحتلال الإسرائيلي تعطيل مصادر المياه عبر إغلاق المعابر وخطوط مياه "ميكروت" التي كانت تمد القطاع بحصة محدودة، فضلًا عن حرمان سكان غزة من الكهرباء والوقود اللازمين لتشغيل آبار المياه المتبقية.
المواطن الفلسطيني خالد زيدان، أحد النازحين، قال وفق "وفا": "مع إغلاق المعابر وانقطاع خطوط ميكروت، لم تعد سلطة المياه قادرة على تشغيل ما تبقى من الآبار، فلا سولار ولا كهرباء، وأصبحت المحابس التي تضخ المياه مغلقة، والعطش لا يفارقنا".
وأشار إلى أن الناس لا يستطيعون الاستحمام إلا مرة في الأسبوع، ويعدّ محظوظًا من ينجح في ذلك، في ظل غياب الماء وانعدام مقومات النظافة الأساسية.
من جهته، عبّر المواطن ماجد الأيوبي عن خشيته من تفشي الأمراض الجلدية والمعدية، وأمراض الكلى، جراء شُحِّ المياه وارتفاع نسبة الأملاح فيها، وقال: "نضطر إلى استخدام مياه غير مفلترة، ولا تتوفر أي مصادر طاقة لتشغيل محطات التحلية أو الفلترة، أما مياه الاستخدام اليومي فنحصل عليها بشق الأنفس من شاحنات خيرية أو من مناطق بعيدة".
وأوضح الأيوبي أن المياه كانت تصل سابقًا ليومين في الأسبوع ولمدة ساعتين فقط، وكانوا يملؤون خزاناتهم بالكاد، أما الآن فالوضع تفاقم بشكل كبير، وأصبح الحصول على الماء مهمة شبه مستحيلة.
أسعار خيالية وانتشار للأمراض
المواطن أبو إبراهيم، والد لخمسة بنات، تحدّث عن صعوبة تأمين المياه لأسرته، فهو يضطر لشراء الماء من عربات تجرها الحيوانات بسعر يصل إلى 100 شيكل للعبوة الواحد، يُنقل يدويًا عبر جالونات في ظل غياب المضخات الكهربائية.
وقال لـ"وفا": "حتى مياه الشرب نشتريها ملوثة ومكلفة، فالجالون الواحد من المياه الصالحة للشرب (20 لترًا) يصل سعره إلى 4 شواكل، وهو مبلغ كبير مع ارتفاع سعر الكاش وانعدام مصادر الرزق".
وذكرت "وفا" أن جزءًا كبيرًا من المياه الجوفية في غزة ملوث بمياه الصرف الصحي، بسبب حفر آبار امتصاصية بجوار خيام النازحين، ما أدى لاختلاط الفضلات بالمياه المستخدمة دون تعقيم أو تنقية.
الصحفي الفلسطيني علي قاسم الفرا، الذي تهدم منزله في بلدة القرارة ونزح إلى وسط خان يونس، قال إن معاناته في الحصول على المياه تفوق الوصف، وعليه حجز دوره لتعبئة الماء قبل ثلاثة أو أربعة أيام، ويدفع 100 شيكل مقابل كوب مياه لا يكفي بضعة أيام.
وأضاف: "أضطر لحمل المياه مسافة تتجاوز 100 متر، ثم أشعل الحطب لطهي ما تيسر من طعام، إن وُجد، وسط أصوات القصف والمجاعة والعطش، ولا أحد يسمع أو يتحرك".
وأفادت "وفا"، نقلًا عن بيانات محلية، بأن الاحتلال دمر 3780 كيلومترًا من شبكات الكهرباء، و2105 محولات توزيع، كما حرم القطاع من 1.88 مليار كيلووات ساعة من الكهرباء منذ بدء الحرب.
وفيما يخص شبكات المياه، دُمّر الاحتلال أكثر من 330 ألف متر طولي من الشبكات، إضافة إلى أكثر من 655 ألف متر طولي من شبكات الصرف الصحي، و2,850,000 متر طولي من الطرق، فيما تم تدمير 719 بئر ماء وإخراجها من الخدمة.
نقص الغذاء والماء ينذر بكارثة
وبحسب "وفا"، يعاني القطاع ظروفًا إنسانية متدهورة بسبب إغلاق الاحتلال المعابر ومنع دخول المساعدات، ونقص حاد في المياه والغذاء والدواء، وتؤكد المصادر أن خط مياه "ميكروت" لا يلبي احتياجات السكان، لا سيما بعد تدمير محطة التحلية المركزية وخزانات المياه.
وأشار الجهاز المركزي للإحصاء وسلطة المياه إلى أن أكثر من 85% من مرافق وأصول المياه والصرف الصحي تعطلت كليًا أو جزئيًا، وتم تدمير 1545 كيلومترًا من الشبكات، و47 محطة ضخ صرف صحي، منها 20 بشكل كامل، و27 جزئيًا.
فيما حذّر اتحاد بلديات قطاع غزة من أن تدمير البنية التحتية أدى إلى توقف الخدمات الأساسية، وخلق أزمة حقيقية، خاصة مع منع الاحتلال إدخال المعدات الثقيلة ومستلزمات إعادة الإعمار.
وأكد الاتحاد أن تفاقم أزمة المياه، مع تعطل شبكات الصرف الصحي وتراكم النفايات، قد يؤدي إلى انتشار الأمراض البكتيرية والفيروسية، خاصة بعد اختلاط مياه الشرب بالمياه الملوثة، وانعدام أي بدائل آمنة.
وشدّد على أن أزمة المياه ليست جديدة، لكنها تفاقمت بفعل الحرب، وتحولت إلى معاناة يومية تمسّ كل مواطن في غزة، وتؤرق النازحين الذين يعيشون على هامش الحياة، بلا ماء ولا كهرباء ولا غذاء.