في 17 و18 أبريل 2025، أجرى وزير الخارجية والهجرة المصري الدكتور بدر عبدالعاطي، زيارة إلى دولتي الجزائر وتونس، حاملةً في طياتها رسائل سياسية واضحة ورؤية استراتيجية متكاملة.
وبتكليف مباشر من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، حمل وزير الخارجية رسائل إلى كل من الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، والرئيس التونسي قيس سعيد، في خطوة تؤكد مضي القاهرة نحو ترسيخ مكانتها كفاعل محوري في محيطها العربي والإفريقي.
وتتجاوز هذه الجولة الطابع البروتوكولي، وأتت في ظل تصاعد التحديات المشتركة التي تواجه المنطقة، بدءًا من القضية الفلسطينية، مرورًا بتعقيدات المشهد في ليبيا والسودان وسوريا، وانتهاءً بضرورة تعزيز مسارات التنمية والتعاون الاقتصادي المشترك، بما يخدم مصالح الشعوب العربية ويدعم استقرار المنطقة برمتها.
من هذا المنطلق، يسعى هذا التحليل إلى قراءة وتحليل جولة وزير الخارجية والهجرة المصري إلى الجزائر وتونس، وانعكاساتها على العلاقات بينهم.
دلالات التوقيت:
تحمل الجولة في طياتها دلالات سياسية واستراتيجية لا يمكن إغفالها، فقد اُختير توقيتها بدقة، فالجولة تمت في لحظة سياسية حساسة تتقاطع فيها عدة ملفات استراتيجية تشغل الإقليم والعالم العربي على حد سواء:
(*) ارتباط الزيارة بالدورة التاسعة للجنة العليا المشتركة: جاءت زيارة وزير الخارجية المصري إلى الجزائر، قبل أسابيع قليلة من الموعد المتوقع لانعقاد اللجنة العليا المصرية-الجزائرية المشتركة هذا العام، وهو ما ظهر بوضوح في تصريحاته التي أكد فيها تطلع مصر لعقد الدورة المقبلة برئاسة رئيسي وزراء البلدين. وتُجسد هذه الزيارة حرص القيادة السياسية على التحضير الجاد والدفع بالعلاقات الثنائية نحو شراكة استراتيجية مستدامة، كما أنها أتت في توقيت يسمح بالإعداد الجيد لاجتماعات اللجنة، من خلال الاتفاق على جدول الأعمال، وحصر مذكرات التفاهم المزمع توقيعها، وتنسيق الرؤى السياسية؛ تمهيدًا للقاء المرتقب بين رئيسي الوزراء، لتكون الزيارة بمثابة خطوة تأسيسية لانعقاد اللجنة في القاهرة.
(*) رمزية الترتيب والتوالي في جولة مغربية مزدوجة: إن ترتيب الزيارتين "الجزائر أولًا ثم تونس" ليس عشوائيًا، بل يعكس أولوية القاهرة لإعادة بناء الجسور مع الجزائر في ملفات ثقيلة كالطاقة، فلسطين وليبيا، ثم تثبت علاقاتها الناعمة مع تونس في ملفات الهجرة والتنمية، ما يعكس رغبة مصر في التحرك ضمن حراك مغربي متصل، إذ تحمل الرسائل السياسية نفسها إلى الطرفين، في توقيت متقارب، لتوحيد الرؤية حول الملفات الإقليمية.
(*) اختيار يوم الجمعة للزيارة توقيت ذو مغزى خاص: إن زيارة وزير الخارجية إلى تونس، الجمعة 18 أبريل 2025، هو توقيت خاص؛ نظرًا لأنه نهاية الأسبوع الرسمي في تونس، ووقت تقل فيه عادةً اللقاءات الرسمية والاجتماعات الدبلوماسية واستعداد الجانب التونسي لاستقبال الزيارة رغم التوقيت الحرج، ما ينم عن خصوصية الزيارة وكونها تحمل ملفات عاجلة وغير مؤجلة.
(*) توقيت إقليمي بالغ التعقيد: جاءت الزيارة في ظل ظرف إقليمي شديد التعقيد، لا يقتصر على التصعيد العسكري في غزة فحسب، بل يشمل أيضًا أزمات متفاقمة في عدة دول عربية، أبرزها السودان الذي يواجه خطر التفكك، إلى جانب الجمود السياسي والأمني في ليبيا، وتدهور الأوضاع في سوريا، وتصاعد التهديدات في منطقة الساحل. هذا المشهد الإقليمي المتشابك يُحتّم تنسيقًا عربيًا مكثفًا، وهو ما حرصت مصر على دفعه من خلال هذه الجولة المغربية.
القضايا المطروحة
خلال الزيارتين، تم استعراض التطورات الجارية في هذه الملفات، التي تُمثل تحديات إقليمية متشابكة، وهي:
(*) القضية الفلسطينية: تصدرت القضية الفلسطينية جدول أعمال المباحثات في كلٍ من الجزائر وتونس، وشكلت نقطة التقاء واضحة في المواقف بين مصر وكلٍ من الجزائر وتونس، واستعرض وزير الخارجية المصري الجهود المكثفة التي تبذلها الدولة المصرية لاستئناف اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، بما يسهم في تحقيق التهدئة وتسهيل نفاذ المساعدات الإنسانية والإغاثية.
كما جرت مناقشة خطة التعافي المبكر وإعادة الإعمار في غزة مع الإصرار على تنفيذها بوجود الفلسطينيين على أرضهم ورفض أي محاولات للتهجير القسري، وتناولت المباحثات سُبل دعم هذه الخطة على المستوى الدولي من خلال الحشد العربي مع الأطراف الدولية الفاعلة.
(*) الأوضاع في ليبيا: كانت الأزمة الليبية من القضايا ذات الأولوية خلال الزيارتين، نظرًا لكون مصر وتونس والجزائر دول جوار تتأثر بالأوضاع الميدانية هناك، وأكد وزير الخارجية المصري، دعم بلاده للوصول إلى حل "ليبي - ليبي" دون تدخلات خارجية أو إملاءات، مع التشديد على ضرورة انسحاب كل القوات الأجنبية من ليبيا باعتباره شرطًا أساسيًا لاستعادة الاستقرار.
(*) الواقع السوري: تناولت المباحثات تطورات الأوضاع في سوريا، إذ يستمر تعثر الحل السياسي وسط تدهور اقتصادي وإنساني متفاقم، خاصة مع إغلاق الجيش الأمريكي ثلاثًا من قواعده الثماني الصغيرة لينخفض عدد الجنود من ألفين إلى نحو 1400 جنديًا، ويؤثر ذلك على التوازن القوي في المناطق الشمالية والشرقية، ما يتطلب دعمًا عربيًا موحدًا لإنهاء الأزمة الممتدة.
(*) الأزمة في السودان: أتت المناقشات في ظل تصاعُد الأزمة بالسودان، الذي حربًا مدمرة منذ عامين بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، أدت إلى سقوط آلاف الضحايا ونزوح ملايين المدنيين داخليًا وخارجيًا، وتفاقمت الأزمة مع إعلان قوات الدعم السريع تشكيل حكومة موازية في دارفور، في خطوة تهدد وحدة البلاد، بجانب الهجمات المتكررة على مخيمات النازحين وسوء الأوضاع الإنسانية التي دفعت نحو نصف سكان السودان إلى مواجهة خطر المجاعة، لكن فشلت الجهود الدولية في التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار، ما جعل التنسيق الإقليمي ضرورة مُلحة في ظل هذا الوضع المتأزم.
(*) الأوضاع في منطقة الساحل الإفريقي: لم تغفل المباحثات عن مناقشة التطورات الراهنة في منطقة الساحل الإفريقي، إذ تتفاقم التهديدات الإرهابية وانعدام الاستقرار نتيجة للانتشار الواسع للتنظيمات الإرهابية في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو، تحديدًا في المنطقة الحدودية بين الدول الثلاثة "ليبتاكو غورما"، ما يستدعي تعزيز التعاون المشترك بين دول المنطقة، لمواجهة التحديات الأمنية المرتبطة بالإرهاب والهجرة غير الشرعية.
(*) القضايا الاقتصادية: احتلت الملفات الاقتصادية حيزًا مهمًا من النقاش، وتم التوافق على ضرورة تعظيم الاستفادة من الفرص المتاحة:
مع الجزائر: تم التباحث بشأن التحضير لعقد الدورة التاسعة للجنة العليا المصرية الجزائرية في القاهرة، خلال العام الجاري، مع تنظيم منتدى أعمال لدفع التعاون الاستثماري، كما أبدت مصر استعدادها لنقل خبراتها التنموية، خاصة في مجالات البنية التحتية والمجتمعات العمرانية.
مع تونس: أُشيد بنتائج الدورة السادسة للجنة التجارية والصناعية المشتركة التي عُقدت في تونس، وتُعد خطوة مهمة نحو تعزيز التجارة والاستثمار بين البلدين، وتأكيد أهمية تفعيل التعاون في إفريقيا.
ختامًا، يمكن القول إن الجولة المغربية لوزير الخارجية المصري تكشف عن خطوة استراتيجية مدروسة تهدف إلى تعزيز التعاون المصري مع الجزائر وتونس في وقت تمر فيه المنطقة بتحديات غير مسبوقة. وبينما تفتح هذه الجولة أفقًا جديدًا لمزيد من التنسيق بين الدول العربية، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي، فإن نتائجها ستكون مرهونة بقدرة هذه الدول على استثمار هذه الزيارة بشكل ملموس.
فإذا تم ترجمة التفاهمات إلى خطوات عملية على الأرض، يمكن أن تُسهم هذه الجولة في تحريك الجمود في بعض الملفات الإقليمية الحساسة مثل القضية الفلسطينية، وتعزيز الجهود لتحقيق الاستقرار في ليبيا والسودان. وفي كل الأحوال، يظل الدور المصري في تنسيق الجهود العربية لتحقيق مصالح مشتركة هو العنصر الأساسي في نجاح أو تعثر هذه المبادرات، ما يضع على عاتق القاهرة مسؤولية كبيرة في إعادة ترتيب الأوراق العربية لمواجهة التحديات الراهنة.