مع نضوب الأموال الأمريكية نتيجة قرار إدارة الرئيس دونالد ترامب بخفض المساعدات الخارجية، تفاقمت الأزمة الإنسانية الناجمة عن الحرب التي اندلعت قبل عامين في السودان، وتركت 25 مليون شخص (أكثر من نصف سكان البلاد) يعانون من الجوع الحاد.
وذكرت صحيفة" نيويورك تايمز" الأمريكية، في تقرير لها، إن الكثيرين من الأطفال في السودان بدأوا يموتون جوعًا في الأسابيع التي تلت تجميد ترامب جميع المساعدات الخارجية الأمريكية، وفقًا لعمال إغاثة محليين وطبيب.
وكانت مطابخ الحساء الممولة أمريكيًا في السودان، شريان الحياة الوحيد لعشرات الآلاف من الأشخاص المحاصرين بسبب القتال. ومع نضوب الأموال الأمريكية، أُغلقت مئات مطابخ الحساء في غضون أيام.
وتقول منظمات الإغاثة إن الحرب في السودان، التي دخلت عامها الثالث، هي أسوأ أزمة إنسانية يشهدها العالم منذ عقود. وتنتشر المجاعة بسرعة، ويلجأ البعض إلى أكل أوراق الشجر والحشائش.
وذكرت الأمم المتحدة أن نحو 400 ألف شخص تشردوا، ولقى المئات حتفهم في دارفور خلال الأسبوع الماضي وحده، عندما اجتاحت ميليشيا الدعم السريع "مخيم زمزم، أكبر مخيم للنازحين في البلاد.
في العام الماضي، قدمت الولايات المتحدة 830 مليون دولار مساعدات طارئة، استفاد منها 4.4 مليون سوداني، وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة. وكان ذلك أكبر بكثير من أي مساعدة قدمتها أي دولة أخرى. ولكن بعد أن أوقف ترامب هذا الدعم في يناير بحل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، كان التأثير في الخرطوم مدمِرًا.
في غضون أيام، اضطر أكثر من 300 مطعم خيري تديرها غرف الاستجابة للطوارئ، وهي شبكة من نشطاء الديمقراطية الذين تحولوا إلى متطوعين في مجال الإغاثة، على الإغلاق.
في منطقة الجريف غرب التي تقع على ضفاف النيل الأزرق بالعاصمة الخرطوم، جاب السكان الجائعون الشوارع بحثًا عن الطعام وسط القصف وغارات الطائرات بدون طيار.
وقال اتحاد من جماعات الإغاثة الرئيسية، إن "أي خفض للمساعدات قد يكون قاتلًا، فأكثر من 600 ألف سوداني يعيشون بالفعل في مجاعة، و8 ملايين آخرين على حافة الهاوية".
وكانت إدارة ترامب أعلنت استثناء المساعدات الإنسانية المنقذة للحياة من التخفيضات. وفي رسالة بريد إلكتروني، قال متحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية إن الولايات المتحدة لا تزال تساعد 4 ملايين شخص داخل السودان، بالإضافة إلى 3.8 مليون لاجئ في الدول المجاورة.
ولكن على الأرض، كما نقلت "نيويورك تايمز" عن منظمات الإغاثة، توقف تدفق الأموال الأمريكية لمدة شهرين تقريبًا، ولم يُستأنف إلا بشكل متقطع، إن استؤنف على الإطلاق.
وبينما تقول إدارة ترامب إن الصنبور للسودان لا يزال مفتوحًا، تقول جماعات الإغاثة التي تحاول تجنب المجاعة، إن الكمية الإجمالية انخفضت، وإن النظام بأكمله أصبح مشلولًا، ما أدى إلى قطع الغذاء لأسابيع في وقت واحد في مكان لا يستطيع فيه سوى قلة من الناس أن يفوتوا وجبة واحدة.
ولم تسد الدول الغنية الأخرى هذا العجز، ورغم التعهدات الجديدة التي قطعتها بريطانيا والاتحاد الأوروبي في مؤتمر انعقد الثلاثاء الماضي في لندن، لا تزال الأمم المتحدة تعاني من عجز بمليارات الدولارات عن تلبية ما تقول إنها تحتاجه لإنقاذ الأرواح في السودان هذا العام.
وقال يان إيجلاند، رئيس المجلس النرويجي للاجئين، لوكالة الإغاثة الدولية: "هذه هي أحلك ساعة بالنسبة للسودان"، ووصف التخفيضات بأنها "فشل أخلاقي".
في الأسابيع الأخيرة، استأنفت الولايات المتحدة دفع التزامتها إلى العديد من منظمات الإغاثة الكبرى العاملة في السودان، وفقًا لما أكده عدد من مسؤولي الإغاثة. لكن يبدو أن القليل من هذه الأموال لم يصل بعد إلى غرف الطوارئ، ولا يزال ما يقرب من نصف المطابخ البالغ عددها 746 مطبخًا في الخرطوم مغلقًا، وفقًا لجهاد صلاح الدين، المنسق المالي للشبكة في العاصمة.
وذكرت وزارة الخارجية الأمريكية في رسالتها الإلكترونية، أن استمرار المساعدات الأمريكية غير مضمون. وأضافت أن الولايات المتحدة تواصل مراجعة مساعداتها للسودان "بهدف إعادة هيكلة المساعدات لتكون أكثر فعالية وكفاءة ومواءمة مع المصالح الأمريكية".
وأعلن برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة هذا الشهر، أن إدارة ترامب أنهت مساعدات الغذاء الطارئة لـ14 دولة هشَّة في جميع أنحاء العالم. وحذرت الوكالة من أن "هذا قد يشكِّل حكمًا بالإعدام على ملايين الأشخاص".
وفي السودان، تشير تقديرات عمال الإغاثة إلى أن معدلات سوء التغذية الحاد بين الأطفال في أجزاء من العاصمة التي كانت في السابق مصدر فخر، أعلى بعشر مرات من عتبة الطوارئ.
ونجح الجيش السوداني في تحرير العاصمة الخرطوم من ميليشيا الدعم السريع في الأسابيع الأخيرة، وفجأة، انفتحت أحياء كانت معزولة لمدة عامين، كاشفة عن صورة صادمة للجوع والمعاناة، وفق نيويورك تايمز.
ولفتت الصحيفة إلى أنه في أحد شوارع غرب جريف، كانت فاطمة بهلوي، البالغة من العمر 20 شهرًا، ترقد بين ذراعي والدتها وهي تبكي، وتلوح بأطرافها النحيلة كالعصي. وقالت خديجة موسى، والدتها، إن تعليق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في أواخر يناير جاء في أسوأ توقيت ممكن.
وبينما كان الجيش السوداني يتقدم نحو الجريف غرب، هاجمت ميليشيا الدعم السريع أثناء انسحابهم المدنيين ونهبوهم وقتلوهم. وسقطت قنابل على بعد خطوات من منزل خديجة موسى ذي السقف الصفيح، وأُغلق جسر قريب على النيل، ما أدى إلى انقطاع إمدادات الغذاء عن المنطقة.
وعندما توقف تدفق الأموال الأمريكية، أُغلق مطعم الحساء المحلي أبوابه، وخرجت "موسى" للبحث عن الطعام، مثل الكثيرين من السكان الذين يعانون من سوء التغذية، وكانت مطابخ الحساء مصدر غذائهم الوحيد لأشهر.
وفي بحري شمال الخرطوم، قال وصفي نظام الدين إن 4 من أصل 9 مطابخ يديرها لا تزال مغلقة منذ خفض التمويل الأمريكي، وانتقد بشدة قرار ترامب بخفض المساعدات، وناشده تغيير مساره.
ويروي موسى سالم، الذي يعمل بائعًا متجولًا، وتطوع بتحضير الطعام للسكان المحتاجين، كيف اقتحمت عناصر من ميليشيا الدعم السريع منزل ابنته وحاولوا اغتصابها، وقال إنها سنوات لا يمكن تصورها.
وتشير بعض التقديرات إلى فرار ثلاثة أرباع سكان الخرطوم قبل الحرب، والبالغ عددهم 8 ملايين نسمة. وكان سالم سيهرب هو الآخر، وقال: "لكن لكي تغادر، تحتاج إلى المال.. من أين لي أن أحصل عليه؟".