في الوقت الذي غيّرت فيه العملية العسكرية الخاصة التي شنَّها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أوكرانيا، منذ فبراير 2022، الجغرافيا السياسية لأوروبا وخريطة توازنات القوى العالمية، غيّرت الحرب روسيا نفسها أكثر بكثير من التأثيرات المباشرة.
الآن، لا يمكن لأي وقف لإطلاق النار -حتى لو توسط فيه رئيس أمريكي مُحبٌّ لنظيره الروسي- أن يُغيّر من فكرة أن المواجهة مع الغرب صارت مبدأ للحياة الروسية، كما لا يمكن لأي وقف للأعمال العدائية في أوكرانيا أن يُقلّل من مدى تعميقه لعلاقات بلاده مع الصين.
وفي تحليل عميق عن "روسيا البوتينية" كما يُمكن أن يطلق عليها بعد أكثر من 20 عامًا من سيطرة الرئيس الروسي على مقاليد الحكم، تشير مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية إلى أن المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين الذين أظهروا عزمًا في مواجهة بوتين، لعبوا -في بعض الأحيان عن غير قصد- على سرديات الرئيس الروسي القائلة بأن الغرب مستاء من روسيا وأن صراعه معها وجودي.
في الوقت نفسه، زعزع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وحدة التحالف عبر الأطلسي بسعيه لإنهاء الحرب بسرعة، وتهديداته المستمرة للحلفاء برفع الحماية عنهم في مواجهة موسكو.
في الحقيقة، لم تُغيّر الحرب في أوكرانيا مسار السياسة الروسية -داخليًا وخارجيًا- مؤقتًا، بل غيّرتها إلى الأبد.
المصالحة المستحيلة
تلفت "فورين أفيرز" إلى أنه حتى لو أدت مبادرات ترامب تجاه بوتين إلى تحسن سطحي في العلاقات الأمريكية الروسية، فإن انعدام ثقة بوتين المتأصل في الغرب سيجعل المصالحة الحقيقية مستحيلة.
يقول التحليل: "لا يمكنه (بوتين) التأكد من أن ترامب سينجح في دفع أوروبا لاستعادة العلاقات مع روسيا، وهو يعلم أنه في عام 2028، قد تُجري إدارة أمريكية جديدة انعطافة سياسية أخرى.. كما لن يتخلى بوتين عن علاقته الاستراتيجية مع الزعيم الصيني شي جين بينج.. سيواصل الكرملين تبني التكنولوجيا الصينية والحفاظ على اعتماده على أسواق الصين ونظامها المالي، وتعميق علاقاته الأمنية مع بكين، حتى لو وُضِع ذلك في مسار تصادمي مع واشنطن".
مع ذلك، قد يدفع استياء إستراتيجية ترامب الاسترضائية قادةً آخرين، لا سيما في أوروبا، إلى تعزيز نهج الاحتواء أو حتى إظهار عداء صريح تجاه روسيا "لكن هذا وحده يُعدّ خطأً فادحًا.. فمن شبه المؤكد أن نظام بوتين لن ينهار من الداخل.. لذا، يجب أن يظل الردع حجر الزاوية في السياسة الغربية -وخاصةً الإستراتيجية الأوروبية- على الأقل في المدى القريب.
ويشير التحليل إلى أنه "في يوم من الأيام، سيُصبح بوتين خارج المشهد، حتى لو برز قادة روسيا القادمون من دائرته المقربة". وقتها، قد يكون أوضح سبيل لخلفاء بوتين لتحسين وضع البلاد هو إعادة توازن سياستها الخارجية، لذا فبينما يُعزز قادة أوروبا قوة الردع ضد روسيا، والبدء في الاستعداد لاغتنام الفرصة السانحة التي ستُتاح مع خروج بوتين من المسرح السياسي.
تضارب المصالح
خلال فترتي حكم بوتين الأوليين في الكرملين -بين عامي 2000 و2008- تضاعف الناتج المحلي الإجمالي لروسيا تقريبًا بفضل ارتفاع أسعار السلع الأساسية، وتدفق الاستثمارات الغربية، وإصلاحات السوق، وازدهار ريادة الأعمال.
وبالمقارنة مع الحقبتين القيصرية والشيوعية في روسيا، وعقدها الفوضوي الذي أعقب انهيار الاتحاد السوفييتي، لم تشهد البلاد قط مثل هذا الازدهار والحرية في آن واحد. ورغم تراجع النمو الاقتصادي في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، إلا أن العقد الاجتماعي ظلّ سليمًا إلى حد كبير.
مع ذلك، على مدار الحرب في أوكرانيا، شهد الاقتصاد الروسي والعقد الاجتماعي الذي دعمه تغييرات جوهرية، أو كما وصفت الخبيرة الاقتصادية ألكسندرا بروكوبينكو في يناير 2024 الوضع الذي يواجهه الكرملين بأنه "معضلة ثلاثية مستحيلة"، إذ كان الكرملين بحاجة إلى تمويل حرب متزايدة التكلفة، والحفاظ على مستويات معيشة المواطنين، وحماية استقرار الاقتصاد الكلي لروسيا، وهي أهداف لا يمكن تحقيقها في آن واحد.
لكن بوتين حل اللغز، اختار التركيز على تمويل الحرب، إذ تخطط الحكومة الروسية لإنفاق نحو 40% من ميزانيتها العامة على الدفاع والأمن بين عامي 2025 و2027، متجاهلة أولويات أخرى مثل الرعاية الصحية والتعليم.
أيضًا، كانت الحرب جيدة من الناحية الاقتصادية، لغالبية الروس.
بعد انخفاض طفيف في عام 2022، نما الناتج المحلي الإجمالي لروسيا بنسبة 3.6% في عام 2023 وبنسبة 4.1% أخرى في عام 2024، وذلك بفضل الإنفاق الدفاعي، بينما بدأت الجوانب السلبية الاقتصادية الرئيسية الناجمة عن الحرب، مثل التضخم المزدوج، في الظهور فقط في أواخر عام 2024.
ويؤكد التحليل أنه "حتى بعد أن تسكت المدافع في أوكرانيا، سيظل الاقتصاد الروسي عسكريًا بشكل كبير"، حيث سيتعين على صناعة الدفاع الروسية تعويض الخسارة الهائلة للجيش في المعدات.
إحكام السيطرة
تشير "فورين أفيرز" إلى أنه كلما ازداد الضغط على الاقتصاد الروسي، زادت موسكو من وتيرة إحكام السيطرة.
في الوقت الحالي، جرَّم الكرملين انتقاد الحرب والجيش الروسي، ورفع دعاوى قضائية رفيعة المستوى ضد معارضين بارزين وغير معروفين على حد سواء، كما زاد النظام بشكل كبير عدد الأشخاص الذين يعتبرهم رسميًا "عملاء أجانب" وهجماته على المنظمات التي تُعتبر "غير مرغوب فيها"، ما يضع منتقدي الحرب أمام خيارين صعبين "النفي إلى الخارج أو السجن في الوطن".
في الوقت نفسه، يزعم التحليل الأمريكي أن بوتين "اشترى الدعم الشعبي من خلال شراء العسكريين وأفراد عائلاتهم".
وفقًا للكرملين، في يونيو 2024 كان هناك نحو 700 ألف روسي على خط المواجهة، ويبلغ متوسط راتب الجندي الروسي الآن ما يقرب من 2000 دولار شهريًا، أي ضعف المتوسط الوطني وأربعة أضعاف المتوسط الإجمالي في عشرات المناطق التي ساهمت بأكبر عدد من المجندين.
ومنذ بدء الحرب، قُتِل أو جُرِح أكثر من 800 ألف جندي روسي، وأرسلت الحكومة ما يصل إلى 80 ألف دولار لعائلاتهم عن كل إصابة أو وفاة. بالتالي خلقت النفقات المالية للكرملين مجموعة كبيرة من الذين يدينون بتقدمهم المادي -وآفاقهم المهنية- للحرب.
وفي عام 2024، أطلق الكرملين برنامجًا لتدريب المحاربين القدامى وتوظيفهم في القطاع العام أو العمل الحكومي.
أيضًا، أصبحت الحرب وسيلةً لموظفي القطاع العام الروسي لتحقيق ترقيات اجتماعية، وأصبح لدى الموظفين المدنيين منصة انطلاق وظيفية جديدة، لأن العمل في الأراضي أوكرانيا المحتلة يُسرّع من ترقياتهم.
وبالنسبة لمئات الآلاف من الروس العاملين في مكافحة التجسس وإنفاذ القانون، أصبح القبض على عملاء غربيين وأوكرانيين، وتحييد النشطاء والصحفيين المناهضين للحرب، وسيلةً للارتقاء الوظيفي.