في دولة تقوم على فصل السلطات، يُفترض أن تكون الكلمة الفصل للقانون، لا لسلطة الفرد، غير أن إدارة الرئيس دونالد ترامب أعادت طرح سؤال جوهري على الساحة الدستورية الأمريكية، وهو ماذا يحدث حين ترفض السلطة التنفيذية الامتثال لأوامر القضاء؟ وهو سؤال يهدد بإشعال أزمة دستورية غير مسبوقة.
وحسب "أكسيوس" الأمريكي فإن رفض إدارة ترامب تنفيذ أحكام قضائية فيدرالية لم يكن مجرد تقصير إداري، بل تحدٍ صريح لسلطة القضاء، يقود البلاد إلى منطقة خطرة.
قضاة بلا مخالب
يحذر خبراء القانون من أن امتناع إدارة ترامب، أو رفضها الصريح، تنفيذ أوامر القضاء الفيدرالي، يُعد بمثابة مسار تصادمي مع النظام الدستوري الأمريكي، وقد يقود إلى أزمة دستورية كاملة، وفقًا لما أوردته شبكة "أكسيوس".
فرغم أن المحاكم الفيدرالية لا تملك أدوات تنفيذية بيدها، فإنها ليست عاجزة تمامًا، إذ يؤكد الخبراء أن بإمكان القضاة إصدار قرارات بالعقوبات أو استخدام أدوات قانونية مثل "ازدراء المحكمة" لإجبار الجهات التنفيذية على الالتزام بالأوامر القضائية.
في إحدى أبرز الحالات، أمرت المحكمة العليا إدارة ترامب بإعادة كيلمار أرماندو أبريجو جارسيا، وهو مواطن من ولاية ماريلاند تم ترحيله خطأ إلى السلفادور، غير أن الإدارة اعتبرت أن القرار لا يُلزمها فعليًا بإعادته، رغم خسارتها لعدة طعون قضائية.
وقال ديفيد نول، أستاذ القانون في كلية الحقوق بجامعة روتجرز: "الحجة بأنهم ملتزمون بأوامر المحكمة العليا والسفلى سخيفة، إنهم في الأساس يتجاهلون المحكمة"، أما البيت الأبيض، فقد وفق "أكسيوس" عبّر المتحدث باسمه هاريسون فيلدز، مؤكدًا التزام الإدارة بأحكام المحكمة، لكنّه قال إن "المحاكم الأمريكية تفتقر إلى السلطة اللازمة لإجبار الرئيس على إرغام دولة أجنبية على إعادة إرهابي أجنبي من عصابة MS-13".
وأضاف: "ناقش الرئيس ترامب الأمر مع نظيره في السلفادور نايب بوكيلي، الذي أكد بدوره رفضه لإعادة الشخص، وبالتالي فقد تم حلّ القضية".
فرض أحكام القضاة
رغم ذلك، يشير خبراء إلى أن المحكمة الفيدرالية تملك صلاحية إعلان ازدراء المحكمة ضد الإدارة الأمريكية. ووفقًا لمعهد "برينان" القانوني، فإن المحاكم الفيدرالية تتمتع بسلطة واسعة في تحديد حالات الازدراء واتخاذ الإجراءات اللازمة ضد الأطراف التي ترفض تنفيذ أحكامها.
وأوضح "نول" أن هذه العملية تبدأ عادةً بإصدار "أمر بإظهار السبب"، تُوجّه من خلاله المحكمة للحكومة شرح أسباب عدم التزامها، وفي حالة أبريجو جارسيا، قد تحتاج المحكمة إلى تقصي هوية صانعي القرار داخل الإدارة لتحديد المسؤولين عن خرق الحكم.
ازدراء المحكمة، كما يشرح نول، ينقسم إلى نوعين: ازدراء مدني ويهدف إلى إجبار الطرف المخالف على تنفيذ الأمر القضائي، ولا يخضع لعفو رئاسي، وازدراء جنائي ويُقصد به معاقبة الطرف المسيء لسلطة المحكمة، لكنه يخضع لعفو الرئيس، ما يجعله سلاحًا ذا فعالية محدودة ضد الرئيس نفسه أو حلفائه.
وبحسب مقال نُشر في مجلة "هارفارد للقانون" عام 2018، بقلم أستاذ القانون نيكولاس باريلو، فإن الحكومة الفيدرالية غالبًا ما تلتزم جزئيًا فقط بأوامر المحكمة، ما يعرّض سلطات القضاء لتحدٍّ مباشر، ومع ذلك، تبقى أحكام ازدراء المحكمة وسيلة فعّالة ذات تأثير "مخزٍ" وقوة ردعية كبيرة.
لكن باريلو يطرح إشكالية بالغة الخطورة، وهي "ماذا يحدث حين تنهار قوة العار؟"، أي عندما لا يعود للمساءلة المعنوية وزنٌ أمام سلطة سياسية متعنّتة.
من يُنفّذ أوامر القضاة؟
من الناحية النظرية، يمكن للقضاة إصدار أوامر بفرض غرامات أو حتى الاعتقالات في حال لم تُحترم قراراتهم، لكن التنفيذ الفعلي لتلك الأوامر يتم عبر "مارشالات الولايات المتحدة"، وهم ضباط فدراليون يتبعون لوزارة العدل، التي تخضع بدورها لسلطة الرئيس.
في هذا السياق، تبرز معضلة أخرى، فإذا قرر ترامب، كرئيس، إصدار تعليمات لوزارة العدل بعدم الامتثال لأمر قضائي، فإن المارشالات قد يمتنعون عن تنفيذ الأوامر، ما يُدخل النظام في دوامة أزمة دستورية خطيرة.
وقالت القاضية الفيدرالية المتقاعدة نانسي جيرتنر لبرنامج "الإصدار الصباحي" على إذاعة NPR: "إذا قرر ترامب عدم الامتثال تمامًا، يمكنه توجيه وزارة العدل بعدم التعاون، وعند تلك النقطة، ندخل في أزمة دستورية شاملة".
عرقلة سلطة المارشالات
في حال فشل المارشالات في تنفيذ الأوامر القضائية، فإن القوانين تمنح المحكمة خيارًا نادرًا باللجوء إلى جهات إنفاذ أخرى، ويقول نول: "للقيام بذلك، نحتاج للعودة إلى زمن الغرب المتوحش، أو إلى أوائل القرن العشرين، حين استعان القضاة بأطراف خاصة أو سلطات تنفيذ غير رسمية لتنفيذ قراراتهم".
لكن هذا الخيار غير معتاد، بل يكاد يكون منقرضًا في الممارسة القانونية المعاصرة، ما يعني أن القضاء الأمريكي، وإن امتلك أدوات قانونية، يظل رهين إرادة السلطة التنفيذية حين تتحدى أوامره.