في ظل الإدارة الجديدة للرئيس دونالد ترامب، تشهد السياسة الخارجية للولايات المتحدة تحولًا جذريًا، لا سيما في علاقاتها مع الصين، إذ فرضت إدارة ترامب تعريفات جمركية على الواردات الصينية مرتين لتبلغ 20%، متذرعة بعدم تعاون بكين الكافي في الحد من إنتاج وتجارة مخدر الفنتانيل.
وردَّت الصين على الفور بإجراءات انتقامية، شملت تعريفات جمركية مضادة، وحظرًا تجاريًا، وإدراج شركات أمريكية في القائمة السوداء.
ومع تصاعد التوترات، تُثار تساؤلات حول ما إذا كان بالإمكان التوصل إلى اتفاق اقتصادي جديد، أم إن التصعيد المستمر سيؤدي إلى تدهور العلاقات بشكل لا رجعة فيه.
هل لا تزال الصفقة ممكنة؟
واستعرض تحليل لمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية الأمريكي الاتجاهات الحالية في العلاقات الأمريكية الصينية، وإمكانية التوصل إلى صفقة اقتصادية، ومدى تأثير التحولات الأيديولوجية في السياسة الأمريكية على هذه العلاقة الحيوية.
رغم التصعيد المتبادل، لا تزال هناك عوامل قد تدفع الطرفين نحو اتفاق، أولها ما يراه كلٌ من ترامب والرئيس الصيني شي جين بينج من فائدة في استقرار العلاقات الاقتصادية.
وحسب التقرير الأمريكي، فبالنسبة لترامب، قد يكون الاتفاق فرصة لتقليل العجز التجاري، وتعزيز التصنيع المحلي، والحفاظ على استقرار الأسواق المالية، وبالنسبة لنظيره الصيني قد يساعد الاتفاق في تهدئة مخاوف المستثمرين الدوليين، وتخفيف الضغوط الاقتصادية الداخلية، وتعزيز استقرار بلاده على الصعيد العالمي.
ويتمتع كلا الزعيمين بمساحة سياسية كافية للمناورة والتوصل إلى اتفاق، فرغم وجود أصوات متشددة داخل إدارته، لا يزال ترامب قادرًا على اتخاذ قرارات أحادية بشأن الصين، وعلى الجانب الآخر، يتمتع "شي" بقبضة حديدية على السياسة الداخلية في الصين، ما يمنحه مرونة أكبر للتفاوض دون مواجهة معارضة داخلية قوية.
عقبات أمام الاتفاق
ورغم إمكانية التوصل إلى اتفاق، إلا أن العوامل التي تعوق تحقيقه عديدة، ومنها عدم الثقة المتبادلة، فلا يعتقد أي من الطرفين أن الآخر مستعد لتقديم تنازلات حقيقية، أو أنه سيلتزم بتعهداته في حال إبرام اتفاق.
من هذه العوامل أيضًا تشدد السياسة الأمريكية، إذ تُبرِز إدارة ترامب الجديدة ميولًا أكثر تشددًا تجاه الصين، مقارنة بإدارته الأولى، إذ تبنّت مقاربة تقوم على فرض تعريفات جمركية واسعة النطاق، وتشديد القيود على الاستثمارات والتكنولوجيا، ما يجعل من الصعب التوصل إلى تسوية مقبولة للطرفين.
ويضاف إلى تلك العوامل التحولات في السياسة الصينية، إذ على الرغم من تباطؤ النمو الاقتصادي تعتقد القيادة الصينية أن اقتصادها لا يزال قويًا، ما يقلل من احتمالية تقديم تنازلات كبيرة للولايات المتحدة، وقد أصبحت الصين أقل اعتمادًا على الأسواق الأمريكية، مع توسع استثماراتها في دول أخرى.
أيضًا المناخ السياسي المتوتر قد يكون عاملًا يعوق الاتفاق بين البلدين، إذ إنه من المقرر أن تتخذ إدارة ترامب قرارات كبرى بشأن السياسة التجارية بحلول أبريل، ما يعني احتمال فرض مزيد من العقوبات على الصين، وبالتالي تقليل فرص التوصل إلى اتفاق.
تحولات أمريكية
لطالما كانت السياسة الخارجية الأمريكية قائمة على مبادئ التجارة الحرة، وتعزيز النظام الدولي القائم على القواعد، ودعم حقوق الإنسان، لكن مع قدوم إدارة ترامب الثانية، بات هذا النهج مهددًا، إذ يتم استبداله بسياسات أكثر انعزالية، وتوجه نحو حماية الاقتصاد الأمريكي من المنافسة الصينية.
وتُفضِّل إدارة ترامب سياسة تجارية تقوم على فرض الحواجز الجمركية، والتخلي عن النظام التجاري المتعدد الأطراف، كما أنها تتبنى نهجًا أكثر براجماتية في التعامل مع الأنظمة الاستبدادية، وأظهرت ميلًا إلى تحسين العلاقات مع روسيا، ما قد يؤدي إلى تحالف أمريكي روسي ضد الصين.
تداعيات محتملة
إذا استمرت الولايات المتحدة في فرض قيود صارمة على الصين فإن الأخيرة سترد بالمثل، ما قد يؤدي إلى حرب تجارية مستمرة، سيكون لها تداعيات خطيرة.
ومن التداعيات الخطيرة للحرب التجارية المستمرة تباطؤ الاقتصاد العالمي، إذ يمكن أن يؤدي فرض تعريفات جمركية جديدة إلى زيادة التضخم، وعرقلة سلاسل التوريد، وخفض معدلات النمو الاقتصادي في العديد من الدول، إضافة إلى تراجع النفوذ الأمريكي في آسيا، فإنه إذا تبنّت واشنطن نهجًا أكثر تشددًا ضد بكين، فقد تسعى الدول الآسيوية إلى تعزيز علاقاتها مع الصين بديلًا عن الولايات المتحدة.
إضافة إلى ما سبق، فمن التداعيات الخطيرة للحرب التجارية المستمرة، تعزيز التحالفات البديلة، إذ تتجه الصين إلى تقوية شراكاتها مع دول مثل روسيا وإيران، ما قد يعيد تشكيل التحالفات الجيوسياسية العالمية.
هل الاتفاق مع الصين مفيد للعالم؟
رغم أن التوصل إلى اتفاق بين الولايات المتحدة والصين قد يبدو كأنه خطوة إيجابية، إلا أن ذلك يعتمد على طبيعة الاتفاق، فإذا كان الاتفاق يهدف إلى دعم التجارة الحرة وتعزيز النظام القائم على القواعد، فقد يكون ذلك مفيدًا للاستقرار العالمي، أما إذا كان يهدف إلى إعادة ترتيب مناطق النفوذ العالمي، والسماح للصين بترسيخ هيمنتها الإقليمية، فقد يؤدي ذلك إلى مزيد من التوترات الجيوسياسية.
وتسعى إدارة ترامب إلى بناء نظام عالمي جديد يقوم على سياسات القوة بدلًا من القواعد الليبرالية، ما يضع النظام التجاري العالمي أمام تحديات غير مسبوقة، وفي ظل هذه الظروف، فإن أي اتفاق يتم التوصل إليه قد لا يكون بالضرورة في مصلحة العالم، بل قد يكون مجرد وسيلة لتعزيز النفوذ السياسي للولايات المتحدة والصين على حساب النظام العالمي القائم.