يشهد الاتحاد الأوروبي انقسامًا حادًا بين أعضائه حول مستقبل صناعته الدفاعية، في وقت يواجه فيه تحديات جيوسياسية غير مسبوقة مع عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وتصاعد التهديدات الروسية، وفي هذا الصدد تكشف صحيفة "بوليتيكو" الأمريكية عن معركة دبلوماسية محتدمة في أروقة بروكسل حول توجيه مليارات اليوروهات المخصصة للإنفاق العسكري، في ظل انقسام واضح بين الرؤية الفرنسية الداعية للاستقلال العسكري الأوروبي، والتوجه العام للدول الأعضاء نحو الحفاظ على العلاقات الوثيقة مع واشنطن.
السيادة العسكرية الأوروبية
في تطور للأحداث، تقف فرنسا، القوة النووية الوحيدة في الاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا، في موقف شبه منعزل أمام غالبية الدول الأعضاء، حيث تصر باريس على موقف متشدد يدعو إلى توجيه أموال دافعي الضرائب الأوروبيين نحو الأنظمة العسكرية المصممة والمصنّعة في أوروبا حصرًا، مستندة في رؤيتها إلى مفهوم "السيادة الاستراتيجية الأوروبية"، وهو مشروع طالما دافعت عنه باريس لتعزيز القدرات العسكرية المستقلة للقارة العجوز.
وفي المقابل، تقف مجموعة كبيرة من الدول الأوروبية، وعلى رأسها ألمانيا وبولندا وهولندا ودول البلطيق، في موقف مغاير تمامًا، إذ تنقل "بوليتيكو" عن دبلوماسي أوروبي بارز تساؤله المثير: "إذا كنا كاتحاد أوروبي سنستثمر مليارات في القدرات الدفاعية ونغلق الباب بحزم أمام الدفاع الأمريكي، هل تعتقد أن هذا سيلقى قبولًا في مار لاجو؟"، في إشارة إلى مقر إقامة الرئيس ترامب في فلوريدا.
شبح روسيا
تكشف الوثائق التي اطلعت عليها "بوليتيكو" عن حجم المخاوف الأوروبية من التهديد الروسي المتزايد، وكيف يؤثر ذلك على قرارات التسلح، إذ صرّح وزير الدفاع البولندي فواديسواف كوسينياك-كاميش للصحيفة بتفاصيل مثيرة عن إنفاق بلاده العسكري، مؤكدًا أن وارسو أنفقت ما يقرب من 60 مليار دولار على المعدات الأمريكية وحدها، مع مليارات إضافية على أسلحة من كوريا الجنوبية.
ويعكس هذا التوجه البولندي نمطًا أوسع في أوروبا الشرقية، حيث تفضل الدول القريبة جغرافيًا من روسيا شراء الأسلحة الجاهزة لتعزيز قدراتها العسكرية في مواجهة الكرملين.
أرقام صادمة
يكشف تقرير دراجي (دراسة استراتيجية أعدها ماريو دراجي، رئيس الوزراء الإيطالي السابق ورئيس البنك المركزي الأوروبي الأسبق، حول تنافسية الاقتصاد الأوروبي) عن واقع سوق الدفاع الأوروبي، فخلال الفترة الممتدة بين منتصف 2022 ومنتصف 2023، استحوذت الشركات الأمريكية على 63% من إجمالي طلبيات الدفاع الأوروبية، بينما ذهب 15% إضافية إلى موردين غير أوروبيين آخرين، ما يعني أن الصناعات الدفاعية الأوروبية لا تحصل إلا على 22% فقط من إجمالي الإنفاق العسكري للقارة.
وفي مواجهة هذا الواقع، تقود بولندا ودول البلطيق حملة طموحة لزيادة الإنفاق العسكري الأوروبي، حيث تدعو إلى تخصيص ما لا يقل عن 100 مليار يورو للدفاع بحلول عام 2027.
وتتجاوز الطموحات ذلك بكثير، إذ تحدثت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين عن إمكانية إنفاق 500 مليار يورو إضافية على مدى العقد المقبل.
مستقبل غامض
في خضم هذه التوترات، يواجه رئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا تحديًا غير مسبوق في إدارة هذا الملف المعقد، وتنقل "بوليتيكو" عن مسؤول أوروبي رفيع المستوى تشبيهه للوضع بأنه يماثل "إجراء عملية قلب مفتوح لرياضي محترف"، في إشارة إلى دقة وحساسية المرحلة.
وتتزايد التعقيدات مع انضمام الأمين العام لحلف الناتو مارك روته إلى القمة، في محاولة للحفاظ على التوازن الدقيق بين الطموحات الأوروبية والعلاقات مع واشنطن.
وفي هذا السياق، يبرز موقف يوناني لافت داعم للرؤية الفرنسية، حيث نقلت "بوليتيكو" عن نائب وزير الدفاع اليوناني يانيس كيفالوجيانيس تأكيده أن تطوير وإنتاج الأسلحة داخل الاتحاد الأوروبي سيعزز الاستقلال الاستراتيجي للقارة، خاصة في ظل التحديات المحتملة التي قد يواجهها حلف الناتو خلال فترة رئاسة ترامب الحالية.