في تحقيق استقصائي، كشفت صحيفة "نيويورك تايمز" النقاب عن الصراع الدرامي الذي دار في أروقة البيت الأبيض خلال الأشهر الأخيرة من رئاسة جو بايدن، إذ ترسم الصحيفة صورة مفصلة لرئيس يصارع الزمن، وفريق عمل يحاول جاهدًا إخفاء تدهور حالته الصحية والذهنية.
المعركة الأخيرة للرئيس المتعثر
منذ البداية، كان المقربون من بايدن يدركون التغيرات التي طرأت عليه، إذ لاحظوا بطء حديثه مقارنة بالسنوات القليلة الماضية، وصعوبة نهوضه من مقعده في السيارة الرئاسية، ومشيته المتعثرة.
في منتصف عام 2022، وجه مايك دونيلون، المستشار الاستراتيجي للرئيس، تحذيرًا صريحًا لبايدن قائلاً: "مشكلتك الكبرى هي النظرة العامة لعمرك"، في حين كان هذا النوع من الصراحة نادرًا مع رجل قضى نصف قرن في السياسة يقدر الولاء والاحترام.
لكن بايدن، وبدلاً من الاستماع للتحذيرات، أشعل فيه هذا التحدي روح المنافسة والعناد، وفي أبريل 2023، وبدون استشارة عائلته أو إجراء مداولات طويلة مع مستشاريه، أعلن ترشحه لفترة رئاسية ثانية، وهو القرار الذي سيؤدي لاحقًا إلى نتائج عكسية وسيجعل الديمقراطيين المحبطين يتساءلون عمّا كان يمكن أن يحدث لو تنحى في الوقت المناسب ليفسح المجال لجيل أصغر.
محاولات الحماية
تشير الصحيفة إلى تولي ستة أشخاص رئيسيين مهمة حماية الرئيس وإدارة تراجعه، إذ كانت جيل بايدن، السيدة الأولى، وهانتر بايدن، ابنه الأكبر، يؤمنان بشدة بقدرته على الفوز، في حين عرف مايك دونيلون وستيف ريتشيتي، مستشار الرئيس، متى وكيف يقدمان المعلومات له، أما آني توماسيني، نائبة رئيس الموظفين، وأنتوني بيرنال، كبير مساعدي السيدة الأولى، فقد أحكما السيطرة على جدول الرئيس العام.
اتخذ الفريق إجراءات غير مسبوقة لحماية صورة الرئيس، فقد أعادوا جدولة الاجتماعات للتأكد من أن مزاج بايدن في أفضل حالاته، وأخروا مشاركة استطلاعات الرأي السلبية معه بينما يناقشون أفضل طريقة لتقديمها.
كما أحاطوه بالمساعدين عند مشيه من البيت الأبيض إلى طائرة الهليكوبتر الرئاسية، حتى لا تلتقط الكاميرات مشيته المتعثرة.
وصل الأمر إلى حد استخدام جهاز التلقين حتى في حفلات جمع التبرعات الصغيرة في المنازل الخاصة، ما أثار قلق المتبرعين الذين طُلب منهم تقديم أسئلتهم مسبقًا.
كما قام الفريق باستبدال الدرج الرئاسي الكبير الذي يستخدمه الرؤساء عادة للصعود إلى طائرة إير فورس ون بدرج أقصر يؤدي مباشرة إلى بطن الطائرة.
سلسلة من السقطات والأزمات
تعرض بايدن لسلسلة من الحوادث التي كشفت عن ضعفه المتزايد، فبعد كسر قدمه أثناء اللعب مع كلبه من نوع الراعي الألماني قبل تنصيبه مباشرة، رفض ارتداء حذاء طبي لأنه لم يرد أن يظهر ضعيفًا، والنتيجة، كما يقول أصدقاؤه ومستشاروه، كانت كسرًا لم يلتئم بشكل صحيح، ما ساهم في مشيته المتعثرة التي استمرت طوال فترة رئاسته.
وفي صيف 2022، وأثناء ركوبه دراجته الهوائية في منزله قرب شاطئ ريهوبوث، توقف للتحدث مع مجموعة من المراقبين والصحفيين، لكن قدميه علقتا في دواسات الدراجة وسقط.
سرعان ما حول منتقدوه سقوطه إلى هجوم سياسي على قمصان تحمل عبارة: "إدارة البلاد مثل ركوب الدراجة".
لكن أسوأ حادث كان في يونيو 2023، عندما تعثر بايدن في كيس رمل خلال حفل تخرج في أكاديمية القوات الجوية.
استغرق الأمر خمس ثوان حتى تمكن عملاء الخدمة السرية من مساعدة الرئيس على النهوض، وهي مدة طويلة عندما تُشاهد على شاشات التلفزيون.
كان كيس الرمل واضحًا في طريق بايدن، وكان من الممكن لأي شخص أن يتعثر به، لكن الدائرة الداخلية للرئيس شعرت بالذعر.
وكان رأي الدائرة المحيطة ببايدن أن الضرر السياسي سيكون كارثيًا إذا تعرض لسقطة أخرى مماثلة، سواء كانت حادثًا أم لا.
سنة الانهيار
كان عام 2023 قاسيًا بشكل خاص على بايدن، إذ تزايدت المشاكل القانونية لابنه هانتر، وكان المدعون الفيدراليون يحققون في تعامل الرئيس مع الوثائق السرية.
وبينما خلص روبرت كي هور، المحقق الخاص، إلى عدم وجود أدلة كافية لتوجيه الاتهام لبايدن، إلا أنه وصفه في تقرير مدمر بأنه "رجل مسن حسن النية ذو ذاكرة ضعيفة".
خلال هذه الفترة، كان بايدن يكافح أيضًا لإدارة دعم أوكرانيا وتصاعد الغضب في حزبه؛ بسبب دعمه لإسرائيل مع استمرار حربها في غزة.
استهلكت متطلبات السياسة الخارجية وقته واهتمامه وطاقته، وفقًا لعدة أشخاص مطلعين على تفكيره، كما خسر الديمقراطيون مجلس النواب في انتخابات التجديد النصفي، وكان التشاؤم بشأن الاقتصاد منتشرًا.
في يونيو 2023، خلال زيارة للنورماندي لإحياء ذكرى يوم النصر، بدا ضعف بايدن واضحًا للدبلوماسيين الأجانب، إذ وصف الحاضرون كيف بدا مشوشًا في الفعاليات وكان يحدق في الفراغ في بعض الأحيان.
وفي عشاء رسمي في قصر الإليزيه استضافه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، اقترب أحد موظفي الرئاسة الفرنسية من مسؤول أمريكي وسأل بقلق عن صحة بايدن، قائلاً إنه يبدو "في حالة ضباب"، وهو تعبير فرنسي يعني "غير متركز" أو "مشوش".
النهاية المحتومة
كانت المناظرة مع ترامب في 27 يونيو نقطة التحول النهائية، إذ كان بايدن منهكًا من رحلتين إلى أوروبا وحفل لجمع التبرعات في كاليفورنيا، كما أنه احتاج إلى قيلولة خلال التحضيرات للمناظرة، ثم قدم أداءً متعثرًا وغير مترابط وصفه الديمقراطيون المذعورون بأنه "كارثي".
حتى المساعدين المقربين الذين كانوا على دراية بضعف الرئيس صدموا مما رأوه، وبعد ثلاثة أسابيع، أعلن بايدن انسحابه من السباق الرئاسي.
في مقابلة أخيرة مع صحيفة USA Today في 5 يناير، قدم بايدن اعترافًا تاريخيًا بأنه ربما لم يكن قادرًا على إكمال فترة رئاسية ثانية، متسائلًا: "من يعرف كيف سأكون عندما أبلغ 86 عامًا؟" وبينما تصر السيدة الأولى جيل بايدن على أنه كان سيكون قادرًا على إدارة فترة ثانية، سيتذكره التاريخ كالرجل الذي هزم ترامب، ثم مهد الطريق، رغمًا عنه، لعودته إلى البيت الأبيض.