دخل عام 2024 تاريخ المناخ العالمي من أوسع أبوابه، بعد أن أعلنت خدمة "كوبرنيكوس" للتغير المناخي التابعة للاتحاد الأوروبي عن تسجيل ارتفاع غير مسبوق في درجات الحرارة العالمية، فلأول مرة في التاريخ المسجل يتجاوز متوسط درجة الحرارة السنوية عتبة 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، في تطور يضع العالم أمام تحديات مناخية غير مسبوقة.
تحطيم سجلات الحرارة
وكشفت البيانات الصادرة عن خدمة كوبرنيكوس للتغير المناخي عن حقائق مقلقة للغاية، إذ سجل شهر نوفمبر 2024 وحده ارتفاعًا في درجات الحرارة بلغ 1.62 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية.
وبتحليل بيانات 11 شهرًا من العام، توقع الخبراء أن يصل المتوسط السنوي إلى 1.60 درجة مئوية، متجاوزًا بفارق كبير الرقم القياسي السابق المسجل في عام 2023 والذي بلغ 1.48 درجة مئوية.
هذا الارتفاع المتسارع في درجات الحرارة يمثل منعطفًا خطيرًا في تاريخ المناخ العالمي، خاصة أن البيانات أظهرت أن 16 من آخر 17 شهرًا سجلت جميعها درجات حرارة تجاوزت عتبة 1.5 درجة مئوية، في مؤشر واضح على استمرار الاتجاه التصاعدي للاحترار العالمي.
اتفاقية باريس على المحك
وفي تصريح مهم حول هذه التطورات، أكدت نائبة مدير خدمة كوبرنيكوس للتغير المناخي الدكتورة سامانثا بيرجس، في تصريحات لصحيفة "ذا جارديان"، أن تجاوز عتبة 1.5 درجة مئوية في عام واحد لا يعني بالضرورة خرقًا لاتفاقية باريس للمناخ، التي تقيس متوسط درجات الحرارة على مدى عقد أو عقدين.
ومع ذلك، فإن هذا الارتفاع يؤكد الحاجة الملحة لاتخاذ إجراءات مناخية أكثر طموحًا وفعالية.
وتواجه الجهود العالمية لمكافحة التغير المناخي تحديات كبيرة، خاصة مع توقعات استمرار ارتفاع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في عام 2024، على الرغم من التعهد العالمي في أواخر عام 2023 بالانتقال التدريجي بعيدًا عن الوقود الأحفوري.
وأشار الخبراء إلى ضرورة خفض انبعاثات الوقود الأحفوري بنسبة 45% بحلول عام 2030 للحفاظ على أي فرصة للبقاء دون عتبة 1.5 درجة مئوية، وهو هدف يبدو صعب المنال في ظل فشل مؤتمر المناخ الأخير COP29 في التوصل إلى اتفاق حول كيفية المضي قدمًا في التحول بعيدًا عن الفحم والنفط والغاز.
كوارث متزايدة وخسائر فادحة
وانعكس هذا الارتفاع غير المسبوق في درجات الحرارة على شكل كوارث طبيعية متزايدة حول العالم، فوفقًا لخدمة كوبرنيكوس لمراقبة الغلاف الجوي، شهد عام 2024 حرائق هائلة في قارتي أمريكا الشمالية والجنوبية.
وأكد العالم مارك بارينجتون، كبير العلماء في الخدمة، لصحيفة "ذا جارديان" أن حجم بعض الحرائق في عام 2024 وصل إلى مستويات تاريخية، خاصة في بوليفيا ومنطقة البانتانال وأجزاء من غابات الأمازون.
كما شهدت كندا حرائق شديدة، وإن كانت أقل حدة من المستويات القياسية المسجلة في عام 2023، لكنها تسببت في مستويات عالية من تلوث الهواء عبر القارات استمرت لأسابيع.
وفي السياق الاقتصادي، كشف تقرير صادر عن معهد الأبحاث التابع لشركة Swiss Re للتأمين عن ارتفاع الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الظواهر المناخية المتطرفة في عام 2024 إلى 320 مليار دولار، بزيادة قدرها 6% عن العام السابق، وبنسبة 25% أعلى من متوسط السنوات العشر الماضية.
وساهمت الأعاصير مثل هيلين وميلتون، إضافة إلى العواصف الرعدية الشديدة في الولايات المتحدة، والفيضانات في أوروبا والإمارات العربية المتحدة، في تفاقم هذه الخسائر.
والمقلق في الأمر أن أقل من نصف هذه الخسائر كانت مغطاة بالتأمين، ولم يتمكن الفقراء من تحمل تكاليف أقساط التأمين.
التكيف المناخي
وفي ضوء هذه التطورات المقلقة، تؤكد شركة Swiss Re في تقريرها أن الخسائر ستواصل ارتفاعها مع تفاقم تأثيرات تغير المناخ على الظواهر الجوية المتطرفة، خاصة مع استمرار زيادة قيمة الأصول في المناطق عالية المخاطر نتيجة للتوسع العمراني.
ولمواجهة هذه التحديات، شددت الشركة على أهمية التكيف مع التغيرات المناخية، مشيرة إلى أن التدابير الوقائية مثل السدود والحواجز وبوابات الفيضانات تعد أكثر فعالية من جهة التكلفة بعشر مرات، مقارنة بتكاليف إعادة البناء بعد وقوع الكوارث.
وتضع الأرقام والبيانات التي كشف عنها عام 2024 العالم أمام مسؤولية تاريخية للتحرك العاجل والفعال لمواجهة أزمة المناخ، فمع استمرار ارتفاع درجات الحرارة العالمية وتزايد الكوارث الطبيعية وما يصاحبها من خسائر بشرية واقتصادية، بات من الضروري أكثر من أي وقت مضى تضافر الجهود الدولية لتنفيذ التزامات اتفاقية باريس للمناخ وحماية كوكبنا للأجيال القادمة.