شهدت العاصمة الجورجية تبليسي ومدن رئيسية أخرى موجة غير مسبوقة من الاحتجاجات الشعبية الواسعة النطاق، في أعقاب قرار الحكومة المفاجئ بتعليق محادثات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي حتى عام 2028، في نقطة تحول محورية في تاريخ العلاقات الجورجية-الأوروبية، تنذر بأزمة سياسية واجتماعية عميقة تهدد بتغيير مسار تطورها المستقبلي.
خلفيات تاريخية
تعود جذور الأزمة الراهنة إلى عقود من العلاقات المعقدة بين جورجيا والاتحاد الأوروبي، إذ إنه منذ استقلالها قبل 30 عامًا، اتخذت جورجيا مسارًا واضحًا نحو التكامل مع المؤسسات الغربية، وهو ما تجسد في دستورها الذي يكرس هدف الاندماج الأوروبي.
وتوجت هذه المسيرة بحصول جورجيا على صفة المرشح الرسمي لعضوية الاتحاد الأوروبي في عام 2023، في خطوة اعتبرت آنذاك انتصارًا تاريخيًا للدبلوماسية الجورجية.
غير أن العلاقات شهدت توترًا متصاعدًا في الأشهر الأخيرة، وفقًا لما نقلته شبكة "بي بي سي"، إذ علق الاتحاد الأوروبي عملية الانضمام في وقت سابق من هذا العام، احتجاجًا على إقرار قانون مثير للجدل يستهدف المنظمات المتهمة بـ"السعي لتحقيق مصالح قوى أجنبية".
وزاد الطين بلة مطالبة البرلمان الأوروبي بإعادة الانتخابات البرلمانية الأخيرة في جورجيا، مشيرًا إلى "مخالفات جوهرية" شملت تخويف الناخبين وشراء الأصوات والتلاعب بالنتائج ومضايقة المراقبين.
تعليق المحادثات
جاء رد الحكومة الجورجية صادمًا، إذ أعلن رئيس الوزراء إيراكلي كوباخيدزه في خطاب مطول تعليق محادثات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي حتى نهاية عام 2028.
وأثار هذا القرار موجة من ردود الفعل الدولية والمحلية، حيث وصفه السفير الأوروبي في جورجيا، باويل هيرتشينسكي، بأنه "محزن ومؤلم للقلب"، معتبرًا أنه يتعارض مع تطلعات الغالبية العظمى من الشعب الجورجي.
وفي تطور لافت للنظر، قدم السفير الجورجي في بلغاريا، أوتار بيردزينيشفيلي، استقالته احتجاجًا على القرار، مؤكدًا في بيان مؤثر أنه أمضى أكثر من عقدين في العمل على تعزيز التكامل مع الاتحاد الأوروبي.
كما وقع أكثر من 100 دبلوماسي وموظف حكومي على رسالة مفتوحة، تؤكد أن تعليق المحادثات يتعارض مع المصالح الاستراتيجية للبلاد.
احتجاجات شعبية
شهدت شوارع تبليسي وكوتايسي مشاهد درامية لاحتجاجات حاشدة امتدت لساعات طويلة.
ونقلت "بي بي سي" تفاصيل المواجهات بين المتظاهرين وقوات الأمن، إذ تجمع الآلاف أمام مقرات الحزب الحاكم "الحلم الجورجي"، رافعين صور صحفيين تعرضوا للضرب من قبل الشرطة، ومرددين هتافات تطالب باستئناف المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي.
واستمرت المواجهات حتى ساعات الفجر الأولى، مع استخدام قوات الأمن للغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه لتفريق المتظاهرين الذين قاموا بإغلاق عدة شوارع رئيسية.
انقسام سياسي
يكشف المشهد الحالي عن انقسام عميق في المجتمع الجورجي، فمن جهة، تظهر استطلاعات الرأي أن أكثر من 80% من الجورجيين يرون مستقبل بلادهم في إطار الاتحاد الأوروبي.
ومن جهة أخرى، يحظى الحزب الحاكم "الحلم الجورجي"، الذي يحكم البلاد منذ عام 2012، بدعم قاعدة انتخابية صلبة.
وبرز هذا الانقسام بشكل جلي في المواقف المتباينة للقيادات السياسية. فالرئيسة سالومي زورابيشفيلي، وصفت البرلمان أُحادي الحزب بأنه "غير دستوري"، في حين يقاطع نواب المعارضة جلسات البرلمان؛ احتجاجًا على ما يعتبرونه تزويرًا للانتخابات.
تداعيات اقتصادية واجتماعية
تلقي الأزمة الراهنة بظلالها على الوضع الاقتصادي والاجتماعي في جورجيا، فتعليق محادثات الانضمام يهدد بتأخير الإصلاحات الاقتصادية والمؤسسية التي كان من المفترض أن تواكب عملية الانضمام.
كما يثير القلق حول مستقبل الاستثمارات الأوروبية في البلاد وفرص التعاون الاقتصادي مع دول الاتحاد.
المسارات المحتملة
رغم تأكيد رئيس الوزراء كوباخيدزه أن بلاده ستواصل تنفيذ الإصلاحات المطلوبة للانضمام، وتخطط للانضمام بحلول عام 2030، إلا أن التحديات تبدو هائلة.
فالحكومة الجورجية تواجه معضلة صعبة في الموازنة بين ضغوط الشارع المؤيد للاندماج الأوروبي من جهة، والحفاظ على استقلالية قرارها السياسي من جهة أخرى.
ويرى محللون بحسب ما تشير "بي بي سي" أن المرحلة المقبلة قد تشهد مزيدًا من التوتر السياسي والاجتماعي، خاصة مع استمرار الاحتجاجات وتصاعد الضغوط الدولية.