جاءت الضربات الجوية التي نفذتها إسرائيل ضد مواقع عسكرية إيرانية في 26 أكتوبر 2024، ردًا على الهجوم الصاروخي الذي شنته طهران عليها في الأول من أكتوبر 2024، ليعكس حقيقة مؤداها أن ثمة رغبة أمريكية في ضبط الردود والمناوشات بين الدولتين منعًا لاندلاع حرب شاملة، ربما تضطر معها الولايات المتحدة للانخراط فيها. وبرغم حديث العديد من المحللين عن سقوط نظريات الردع بين الجانبين، وانتهاء حروب الظل أو حروب الوكلاء لتصبح المواجهات العسكرية المباشرة هي النمط السائد في المرحلة الحالية من الصراع بينهما، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية التي أعلن رئيسها جو بايدن عن معرفته بموعد ومدى الضربة التي ستوجهها إسرائيل سعت لضبط تلك المواجهات للعديد من الدوافع، وهو ما يثير التساؤل حول ماهية تلك الدوافع، ومدى قدرة الولايات المتحدة على ضمان استمرار تلك الردود المحسوبة، والسيناريوهات المحتملة لتلك المواجهات.
تصعيد منضبط
ارتبط الملمح الأهم للتصعيد المتبادل بين إيران وإسرائيل بالدور الأمريكي الذي أسهم في ضبط ذلك التصعيد وجعله محسوبًا من دون خسائر مادية أو بشرية جسيمة، فقد أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن في 12 إبريل 2024 عن توقعه بتوجيه طهران ضربة لإسرائيل عاجلًا وليس آجلًا ردًا على استهداف إسرائيل للقنصلية الإيرانية في دمشق. وقد شنت إيران بالفعل في 14 أبريل 2024 هجومًا مكثفًا على تل أبيب بالطائرات المسيرة والصواريخ انطلاقًا من أراضيها باتجاه إسرائيل.
وجاء الاستهداف الإيراني الثاني لإسرائيل بالصواريخ والمسيرات مطلع أكتوبر 2024، وذلك ردًا على سلسلة الاغتيالات التي نفذتها إسرائيل ضد قادة الفصائل الفلسطينية والمجموعات المرتبطة بإيران وأهمها اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خلال مشاركته في حفل تنصيب الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان بالعاصمة طهران، وكذلك اغتيال الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله، وعدد من قادة الحزب. وقبيل الهجوم الإسرائيلي في 26 أكتوبر 2024 أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن عن علمه بتوقيت ومدى الضربة الإسرائيلية ضد إيران، وذلك في تصريحات صحفية خلال زيارة قصيرة لألمانيا في 18 أكتوبر 2024، وسبق ذلك بيان أصدره مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 16 اكتوبر 2024 قال فيه "إن إسرائيل ستنصت إلى الولايات المتحدة، وأنها ستتخذ قراراتها بناء على المصلحة الوطنية".
دوافع متعددة
تتنوع الدوافع الأمريكية لضبط التصعيد بين إيران وإسرائيل. وهو ما يمكن الإشارة إليه على النحو التالي:
(*) منع تمدد الصراع وانتشاره: تبنى الرئيس الأمريكي جو بايدن وأركان إدارته توجهًا رئيسيًا يقوم على منع تمدد الصراع خارج قطاع غزة منذ عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حركات المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر 2023، وردت عيها إسرائيل بعملية "السيوف الحديدية"، وشن حرب غاشمة على القطاع. ولكن برغم تناقض الموقف الأمريكي الرامي لمنع تمدد الصراع من غزة، والدعم العسكري الذي قدمته الولايات المتحدة لإسرائيل، إلا أنها سعت لاحتواء التصعيد الأخطر على الأمن الإقليمي بين إيران وإسرائيل، في ظل امتلاكهما لمنظومات متقدمة من التسليح العسكري، لذلك جاء تصريح وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في 24 أكتوبر 2024 "بأن الولايات المتحدة تنسق بشكل وثيق مع إسرائيل بشأن ما هو ضروري، لردع المزيد من الأعمال العدائية من جانب إيران، ولضمان ألا يؤدي أي رد إلى دائرة لا نهاية لها من التصعيد".
(*) رفض الانخراط الأمريكي المباشر في الصراع: يرتبط الدافع الرئيسي للولايات المتحدة الأمريكية في منع التصعيد بين إيران وإسرائيل والسعي لضبطه، حتى لا تضطر الولايات المتحدة الأمريكية للانخراط في المواجهات بشكل مباشر ضد إيران، لاسيما وأن الخبرات التاريخية للصراعات الإسرائيلية مع دول الإقليم كانت الولايات المتحدة داعمة لها بشكل مباشر في ظل علاقات التحالف الاستراتيجي بينهما.
ومع تزايد التهديدات الإسرائيلية قبيل تنفيذ الضربة ضد إيران بالحديث عن استهداف منشآت نفطية ونووية، إلا أن الرد الإسرائيلي لم يرق إلى مستوى تلك التهديدات وسلك أقل السيناريوهات توقعًا بما أعطى للسلطات الإيرانية فرصة للتقليل من خسائرها بما قد يسهم في وقف المسار التصعيدي للمواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل، وهو ما دعا إليه الرئيس الأمريكي جو بايدن بضرورة وقف المناوشات بين الجانبين. كما أكد الناطق باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي شون سافيت بأن "هدفنا هو تسريع الدبلوماسية وتهدئة التوترات في منطقة الشرق الأوسط، وحض إيران على وقف هجماتها على إسرائيل حتى تنتهي هذه الدورة من القتال دون مزيد من التصعيد".
(*) ضمان أمن الطاقة: هدفت الولايات المتحدة الأمريكية من ضبط الرد الإسرائيلي من خلال تحذير الرئيس الأمريكي جو بايدن من استهداف منشآت نفطية أو نووية في إيران، وذلك منعًا لرد إيراني قد يؤدي إلى توترات في الممرات المائية الدولية، وفي مقدمتها مضيق هرمز الذي يقع في مرمى النيران الإيرانية، والذي يمر من خلاله ثلث النفط العالمي، وهو ما كان يعني حدوث أزمة طاقة على المستوى العالمي قد تؤدي إلى ارتفاعات قياسية في أسعار نفط، وهو ما سيكون له تأثير المباشر على أمن الطاقة في الدول الغربية، ومنها الدول الأوروبية التي لا تزال تعاني من مشكلات الطاقة منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022.
(*) ضبط سلوك الأذرع الإيرانية: ثمة إدراك أمريكي بأن إيران تمتلك القدرة على ضبط سلوك أذرعها في إقليم الشرق الأوسط في ظل سيطرتها على توجيه تلك الأذرع من الناحية التخطيطية والعملياتية، بما يعني أن خروج الأمور عن السيطرة في حال اندلاع حرب إقليمية شاملة بين إيران وإسرائيل ربما يدفع تلك الأذرع لاستهداف المصالح الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، بما يجعل من توجه الولايات المتحدة بضبط التصعيد بين الدولتين مكسبًا أمريكيًا، لتجنب مواجهة عسكرية لا يمكن التنبؤ بعواقبها قبيل أيام من إجراء الانتخابات الرئاسية في الخامس من نوفمبر 2024، التي ستقرر هوية الرئيس القادم ورؤيته لكيفية إدارة الصراع.
سيناريوهان محتملان
ثمة سيناريوهان محتملان للتصعيد المتبادل بين إيران وإسرائيل:
(&) استمرار التصعيد؛ يقوم ذلك السيناريو على توقع استمرار المناوشات بين إيران وإسرائيل، في ظل وجود حكومة يمينية متطرفة في إسرائيل تسعى لتغيير موازين القوى في إقليم الشرق الأوسط من خلال إضعاف القوى الإقليمية الأخرى ومنها إيران. وقد عبر عن ذلك التوجه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 27 أكتوبر 2024 بأن إسرائيل ضربت بقوة قدرة إيران على الدفاع عن نفسها، وعلى إنتاج الصواريخ خلال الهجوم الجوي، كما شدد أيضًا في 31 أكتوبر 2024 على أن تل أبيب تتمتع بحرية التصرف في إيران أكثر من أي وقت مضى ويمكنها الوصول لأي مكان فيها حسب الحاجة، مؤكدًا أن منع طهران من الحصول على أسلحة نووية يمثل أولوية قصوى.
(&) التهدئة: وهو السيناريو الأقرب للتحقق، وهو ما تعكسه تصريحات المسئولين في الولايات المتحدة وإيران، حيث حذر وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن طهران من الرد على الضربات الإسرائيلية التي استهدفت مواقع عسكرية في إيران، وأكد في اتصال مع نظيره الإسرائيلي على فرض نزع فتيل التصعيد في المنطقة قائلًا في بيان صادر في 27 أكتوبر 2024 "ينبغي ألا تقترف إيران خطأ الرد على الضربات الإسرائيلية"، وهو ما يمثل نهاية لهذا التبادل.
أما على الجانب الإيراني فقد أعلن المرشد الإيراني علي خامنئي أن الهجوم على إيران يجب ألا يُضخم أو يُقلل من شأنه لكنه لم يدع إلى رد انتقامي مباشر، فيما أعلنت هيئة الأركان المسلحة الإيرانية في 26 أكتوبر 2024 بأن وقف إطلاق النار في قطاع غزة أو لبنان له الأولوية على أي رد انتقامي ضد إسرائيل.
مجمل القول؛ سعت الولايات المتحدة الأمريكية لضبط التصعيد بين إيران وإسرائيل بحيث لا يؤدى إلى خسائر جسيمة مادية أو بشرية، وبما يحول دون اندلاع حرب إقليمية شاملة بين الطرفين يكون لها تداعياتها على تمدد الصراع وانتشاره من خلال احتمالية انخراط الأذرع الإيرانية في دول الإقليم، وعلى أمن الطاقة العالمي.