في السابع عشر من ديسمبر الجاري أدلى التونسيون بأصواتهم، لاختيار 154 نائبًا من أصل 161، هم إجمالي عدد أعضاء مجلس نواب الشعب التونسي، ويرجع تأجيل التصويت في 7 دوائر انتخابية بالخارج إلى عدم ترشح أي من المواطنين التونسيين بالخارج على هذه المقاعد، التي حددها لهم الدستور من أصل عشرة مقاعد، هي إجمالي مقاعد المقيمين بالخارج.
وإذا كانت الانتخابات انتهت في جولتها الأولى بنسبة تصويت اقتربت من 10%، بإجمالي عدد أصوات تجاوز 808 آلاف صوت، فإن هذا الرقم يعتبر مناسبًا لما هو محيط بالعملية الانتخابية في تونس، بل هو انعكاس حقيقي للنظام الانتخابي، الذي قد يسفر عن برلمان منضبط وواقعي للتركيبة الاجتماعية والسياسية التونسية، التي بدأت تتشكل بعد خروج جماعة الإخوان التونسية (حركة النهضة) وائتلافاتها المتمثلة في حزب "قلب تونس" والائتلاف الوطني وائتلاف الكرامة ذي الميول الإخوانية، والذين تسببوا في انسداد سياسي وانهيار اقتصادي طوال عشرة سنوات مضت.
تأسيسًا على ما سبق، يحاول هذا التحليل تفسير اتجاهات التصويت في انتخابات مجلس نواب الشعب التونسي 2022، وانعكاساتها على تشكيل الغرفة التشريعية الأولى للبرلمان، الذي يكتمل بعد إجراء انتخابات غرفته الثانية "المجلس الوطني للجهات والأقاليم".
قراءة واقعية:
ثمة دلالات تعكسها وتشير إليها عملية التصويت ونسبة الأصوات في الجولة الأولى من انتخابات مجلس نواب الشعب التونسي، هي كالتالي:
(*) تناسبية عدد الأصوات مع واقع العملية الانتخابية: تعتبر نسبة التصويت التي اقتربت من 10% في الجولة الأولى بعدد أصوات يزيد عن 808 آلاف صوت، من إجمالي الهيئة الناخبة البالغ عددها 9.2 مليون ناخب، انعكاسًا واضحًا لعدد المرشحين البالغ عددهم 1055 مرشحًا، وبالتالي في حالة المقارنة بانتخابات 2019 التي ترشح فيها 15 ألفًا و886 مرشحًا، يمكن القول إن انتخابات 2022 هي الأفضل في حالة قسمة عدد الأصوات على عدد المرشحين، خاصة وأن انتخابات 2019 البرلمانية بتونس بلغت نسبة التصويت فيها 41,7%، بإجمالي عدد أصوات بلغ مليونين و900 ألف صوت. وبمقارنة ما حصل عليه كل مرشح في العمليتين 2022 و2019 تكون حصيلة مرشح انتخابات 2022 هي الأكثر حظًا بعدد أصوات يقترب من 7 آلاف صوت في حين أن ما حصل عليه كل مرشح في انتخابات 2019 من إجمالي عدد الأصوات البالغ مليونين و900 ألف صوت لن يزيد عن 3 آلاف.
(*) انعكاس واضح لطبيعة النظام الانتخابي: يختلف النظام الانتخابي باختلاف الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي تطبيق الدولة التونسية للنظام الفردي في انتخابات مجلس نواب الشعب التونسي 2022، هو تعبير عن واقع الدولة التونسية خلال عشر سنوات، شهدت انسدادًا سياسيًا واقتصاديًا، تسبب فيهما النظام الانتخابي السابق (القوائم النسبية المفتوحة)، الذي أدى إلى سيطرة فصيل واحد على العملية التشريعية والرقابية في البرلمان، بل وفي اختياره للحكومة، وهو ما أنتج ما يعرف بالترضية السياسية المتبادلة بين الحكومة والأغلبية، وأفقد التنوع في تركيبة البرلمان من القيام بدورها الرقابي والتشريعي. وبالتالي قد يكون النظام الفردي في الانتخابات الحالية، عاملاً رئيسيًا في الهروب الجماعي للكتل النيابية التي سيطرت على برلمان 2019، وهي حركة النهضة بعدد 52 مقعدًا وحزب "قلب تونس" بعدد 38 مقعدًا وائتلاف التيار الوطني بعدد 22 مقعدًا وائتلاف الكرامة بعدد 21 مقعدًا، وعليه في حالة خصم أنصار هذه الكتل الانتخابية من إجمالي الهيئة الناخبة في 2022، قد يكون حاصل العملية الانتخابية الحالية معبرًا عن التركيبة السياسية والحزبية الجديدة، التي تتضمن فقط الداعمين الرئيسين للتغييرات في البيئتين السياسية والقانونية، التي أجرها الرئيس قيس سعيد منذ 25 يوليو 2021.
وبالتالي قد يكون تراجع عدد الأحزاب المشاركة في برلمان 2022 مقارنة ببرلمان 2019، أحد الأسباب في عدم تجاوز عدد أصوات الناخبين مليون صوت، خاصة وأن الكتل الحزبية الرافضة للانتخابات لديها القدرة على الاستغلال السياسي للمواطنين وتحقيق حالة من الزخم الانتخابي والدعائي لقوائمها الانتخابية، وهو ما لم يتحقق في انتخابات 2022 التي اعتمدت على مرشحين جدد بالنظام الفردي.
(*) تعبير عن الظروف والسياقات التي يعيشها المجتمع التونسي بسبب عشرية حكم الإخوان: إذا كان النظام الفردي، بالإضافة إلى تأثير إصلاحات قيس سعيد على الخريطة الحزبية والسياسية في المجتمع التونسي، وخلق نخبة برلمانية جديدة، تسبب في تراجع نسبة التصويت في انتخابات 2022، كما سبق القول، فإن سيطرة جماعة الإخوان التونسية (حركة النهضة) على الحكومة والبرلمان منذ عام 2011 حتى نهاية 2019، وتسببها في انهيار اقتصادي وانسداد سياسي لم يتحمل الشارع التونسي تأثيراتهما، خاصّة في ظل الصراع الدائم الذي نشأ منذ عام 2016 بين الرئيس والحكومة، والذي كان البرلمان بأغلبية ائتلاف النهضة طرفًا فاعلًا فيه، سببًا رئيسيًا في عزوف الناخبين التونسيين عن الانتخابات في 2022، خاصّة بعد مشاهدتهم للصراع بين الرئيس السابق الباجي قايد السيسي مع حكومة يوسف الشاهد في 2019، والصراع بين الرئيس قيس سعيد وأزمته مع حركة النهضة، ومحاولة تمرير لحكومتها برئاسة الحبيب الجملي، واستقطابها لحكومة إلياس الفخفاخ، ومحاولة سيطرتها عليه.
وبالتالي، قد يرجع انخفاض نسبة التصويت في المرحلة الأولى من الانتخابات التونسية 2022، إلى صعوبة النظام الانتخابي الفردي، باعتباره يطبق في تونس للمرة الأولى، رغم أنه يخلق تركيبة برلمانية متناغمة وغير منقسمة، هذا بالإضافة إلى العزوف المقصود من بعض القوى الحزبية عن المشاركة بهدف إفشال إصلاحات الرئيس قيس سعيد، وكذلك الانعكاسات السلبية لسيطرة جماعة الإخوان على البرلمان والحكومة خلال عشرة سنوات، وتسببها في فشل اقتصادي بلغ معدل التضخم فيه 10%، بالإضافة إلى غياب بعض السلع الضرورية وزيادة معدل البطالة، وهجرة الآلاف من الشباب التونسي إلى الدول الأوروبية.
التأثير المحتمل على تركيبة وأداء البرلمان:
قد تنتهي تركيبة النخبة البرلمانية التي يُنتجها النظام الفردي في انتخابات مجلس نواب الشعب التونسي 2022 إلى تشكيل برلمان متوازن خالٍ من الاستقطاب الحزبي، وظاهرة "التجوال السياسي" التي سيطرت على البرلمان منذ عام 2011، وأضعفت أداءه التشريعي والرقابي، وبالتالي يمكن رصد الملامح المحتملة لبرلمان تونس 2022، على النحو التالي:
(&)- غياب الائتلافات الحزبية المُعطِلة لعمل البرلمان، وظهور نخبة برلمانية جديدة تستهدف الصالح العام بعيدًا عن الصراعات الحزبية: من المحتمل أن تؤدى نتائج تطبيق النظام الفردي في انتخابات مجلس نواب الشعب 2022، إلى معالجة المشاكل التي تسبب فيها النظام الانتخابي المُطبَق في تونس منذ 2011 (التمثيل النسبي للقوائم)، الذي تسبب في تشكيل برلمان مشتت ومنقسم، وشهد تقلبات سياسية وبرلمانية تكاد تكون يومية، وتغيرات مستمرة في تركيبة البرلمان، أثّرت بشكل سلبي على أدائه التشريعي والرقابي، لدرجة أن البرلمان التونسي لم يعقد خلال 32 شهرًا -ما يقرب من نصف عمره في وقت سيطرت جماعة الإخوان- جلسة حوار واحدة مع الحكومة. وبالتالي قد يساعد غياب التكتلات الحزبية المتنافسة وسيطرة المستقلين على مجلس نواب الشعب، بالإضافة إلى وجود غرفة ثانية للبرلمان تتمثل في المجلس الوطني للجهات والأقاليم بعدد نواب يبلغ 96 نائبًا، يتحملون مسئولية تشريعية تتعلق بمشروعات قوانين الميزانية والتنمية، ودورًا رقابيًا ينتهي باستخدام آلية لائحة اللوم التي تسقط الحكومة، إلى تحقيق الصالح العام، وعودة مؤسسات الدولة التونسية لعملها الطبيعي لإنقاذ الشعب من انهيار اقتصادي تسببت فيه جماعة الإخوان.
(&)- معالجة الاختلالات في العلاقات الداخلية بالبرلمان وكذلك في علاقته مع أطراف النظام السياسي: من المحتمل أن يؤدي النظام الانتخابي الفردي في تونس، إلى غياب ثلاثة ظواهر برلمانية أضعفت من أداء البرلمان التونسي خلال العشر سنوات الماضية، بل عزلته عن الشارع، وهي ظاهرة "التجوال السياسي"، و"الصراع بين البرلمان والرئيس"، و"الترضية السياسية" المتبادلة بين الحكومة والأغلبية في البرلمان. فقد تلاحظ على البرلمان التونسي منذ عام 2011 حتى حله، سيطرة ظاهرة التجوال السياسي أو ما يعرف بانتقالات النواب داخل البرلمان التونسي، التي تعني انتقال النائب من كتلة برلمانية إلى أخرى داخل البرلمان، والتي تدعم دائمًا الأغلبية على حساب المعارضة، وتؤدى إلى التأجيل في تشكيل الحكومة أو منع تمرير مشروعات قوانينها، خاصّة وأن هذه الظاهرة أدت في تونس إلى انهيار بعض الأحزاب الوازنة في علاقة البرلمان بالحكومة، حيث بلغ عدد النواب الذين غيروا كتلتهم في البرلمان التونسي من 2014 إلى 2019، 87 نائبًا. وبالتالي تكون من أهم التأثيرات الإيجابية للتعديلات الدستورية إلى جانب النظام الانتخابي، هو منع حدوث تلك الظاهرة بنص دستوري في دستور 2022، حيث نص الفصل الثاني والستون من الدستور على أنه "إذا انسحب نائب من الكتلة النيابية التي كان ينتمي إليها عند بداية المدة النيابية لا يجوز له الالتحاق بكتلة أخرى". أما الظاهرة الثانية، التي قد تختفي في برلمان 2022، تتمثل في الصراع بين الرئيس والبرلمان، والتي أدت إلى تراجع أداء الرئيس، وكان رئيس الحكومة هو الذي يضع السياسات العامة للدولة، خاصّة وأن تشكيل البرلمان منذ 2011، بالإضافة لأن النظام السياسي، قبل تعديلات قيس سعيد 2022، أعطى للبرلمان سلطة تكليف تشكيل الحكومة من الحزب أو الائتلاف الحاصل على الأغلبية، ما تسبب في خلق أزمات دائمة بين الحكومة والرئيس كان البرلمان طرفًا رئيسيًا فيها. فخلال مجلس 2014-2019 حدثت أزمة بين الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي ورئيس الحكومة يوسف الشاهد، انتهت بانتصار الأخير بعد دعم كتلة الإخوان في البرلمان له، وتمريرهم الثقة في حكومته. أما الأزمة الثانية فكانت بين البرلمان المنتخب عام 2019 والرئيس قيس سعيد، خاصة بعد تعيين الرئيس لحكومة إلياس الفخفاخ، ومحاولة حركة النهضة استقطاب بعض عناصرها. أما الظاهرة الثالثة التي قد لا نراها في البرلمان التونسي 2022، فهي تتمثل في الترضية السياسية المتبادلة بين الأغلبية والحكومة، حيث تلاحظ خلال الفترة البرلمانية من 2011 إلى 2019، ترك البرلمان العملية التشريعية للحكومة والموافقة على جميع مشروعات القوانين المقدمة منها للبرلمان، باعتبارها حكومة ائتلاف الأغلبية، حيث تلاحظ موافقة البرلمان خلال تلك الفترة على 316 مشروع قانون مقدم من الحكومة، مقابل موافقته فقط على 9 اقتراحات قوانين مقدمة من النواب. وبالتالي قد تختفي هذه الظاهرة التي كانت من أهم مساوئ النظام الانتخابي القديم، وهي سيطرة الائتلاف المشكل للحكومة على التشريع وسيطرة الحكومة على مشروعات القوانين، ويقتصر دور النخب الأخرى على المشاركة الشكلية. بسبب تغيير النظام السياسي وتحقيق توازن السلطات بين الرئيس والبرلمان في الدستور الجديد، بالإضافة إلى تشكيل البرلمان الجديد القائم على النظام الفردي، وهو ما يعني قيام البرلمان بوظيفته التشريعية وتراجع هيمنة الحكومة على التشريع في برلمان 2022.
(&)- تفعيل الدور الرقابي للبرلمان في مواجهة الحكومة: كان أيضًا من مساوئ النظام الانتخابي السابق، غياب الدور الرقابي الحقيقي للبرلمان، خاصّة وأن الأغلبية التي يمكن أن تمرر الأدوات الرقابية ضد الحكومة، هي التي تشكلها، لذلك لم يستخدم البرلمان خلال السنوات العشر السابقة لائحة اللوم التي تسحب الثقة من الحكومة، بل ظلّت معطلة بسبب أن الأغلبية المهيمنة على البرلمان والتي كانت النهضة الإخوانية الطرف الرئيسي فيها، تحرص على استخدام الحكومة في صراعها مع الرئيس. وبالتالي قد يؤدى تعديل الدستور والنظام السياسي، وكذلك النظام الانتخابي إلى التخلص من هذه الظاهرة وقيام البرلمان التونسي الجديد، باستخدام حقه الرقابي على الحكومة، وهو ما أكده دستور 2022 في الفصل المائة وخمسة عشر، حيث نص على أنه "يمكن لمجلس نواب الشعب وللمجلس الوطني للجهات والأقاليم مجتمعين، أن يعارضا الحكومة في مواصلة تحمل مسؤولياتها بتوجيه لائحة لوم، إن تبين لهما أنها تخالف السياسة العامة للدولة والاختيارات الأساسية المنصوص عليها بالدستور".
في النهاية، يمكن القول إن نتائج التصويت في المرحلة الأولى من انتخابات مجلس نواب الشعب 2022 بالمقارنة بما سبقها من انتخابات، جاءت معبرة عن النظام الانتخابي المستخدم، وبالتالي تكون نسبة التصويت الأولية التي قد لا تتجاوز 10% هي نتاج حقيقي لتطبيق النظام الفردي، وعزوف الكتل الحزبية الراغبة في تعطيل المسار الإصلاحي الذي اتخذه الرئيس قيس سعيد منذ 25 يوليو 2021، وكذلك حداثة النخب البرلمانية المتنافسة في الانتخابات الأخيرة.