جاء الهجوم الإيراني الأول من نوعه من الأراضي الإيرانية باتجاه إسرائيل 13 أبريل 2024 وذلك باستخدام ما يقرب من 170 طائرة مسيرة متنوعة، و36 صاروخ كروز وأكثر من 120 صاروخًا باليستيًا وبمشاركة الأذرع الإيرانية أيضًا في العراق وسوريا ولبنان واليمن، ليعكس العديد من الدلالات التي ترتبط بتغيير قواعد الاشتباك بين القوتين الإقليميتين بعد استهداف العمق الإسرائيلي، وتغير استراتيجيات الردع التي قامت على التلويح باستخدام القوة العسكرية دون اللجوء إليها بشكل مباشر بين الجانبين، فضلًا عن استمرار التقليد الغربي وفى مقدمته التقليد الأمريكي الضامن لأمن إسرائيل، وحمايته ضد مصادر التهديدات المختلفة، واستعادة التعاطف الغربي مع إسرائيل بعد استخدامها للقوة الغاشمة التي أنتجت المأساة الإنسانية في غزة بسقوط ما يقرب من 100 ألف فلسطيني ما بين شهيد وجريح، بما أثار رفض الشعوب الحرة التي خرجت في غالبية مدن وعواصم العالم، لتندد بالجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزة.
تقييم متباين
اختلف تقييم تداعيات الهجوم الإيراني على إسرائيل ما بين اتجاهين رئيسيين: الأول يتبنى أن الضربات التي شنتها إيران ووكلائها في المنطقة، قد نجحت في تحقيق أهدافها سواء ما يتعلق برد الاعتداء الإسرائيلي بتدمير سفارة إيران في سوريا في الأول من أبريل 2024، وتصفية عدد من قادة ومستشاري الحرس الثوري الإيراني، أو ما يتعلق بقدرة إيران على الوصول للعمق الإسرائيلي من خلال منظومة الصواريخ والطائرات المسيرة التي تنتجها وتستخدمها لردع الخصوم، ويتبنى ذلك الاتجاه القائل بأن الهجمات الإيرانية على إسرائيل حققت أهدافها من القادة الإيرانيين أنفسهم ووكلاء طهران بالمنطقة، حيث أعلن رئيس هيئة الأركان للقوات المسلحة الإيرانية محمد باقري بأن الهجوم حقق كل أهدافه، "وأن عملية الوعد الصادق نفذت بنجاح بين ليل السبت وصباح الأحد وحققت كل أهدافها".
أما الاتجاه الثاني فيرى أن الهجوم أخفق في تحقيق أي من أهدافه وتتبناه إسرائيل وعدد من دول الحلفاء الغربيين ممن شاركوا في مساعدتها على التصدي للهجوم، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أعلن الجيش الإسرائيلي في بيان له 14 أبريل 2024 إحباط الهجوم، مؤكدًا اعتراض 99% من الطائرات المسيرة والصواريخ التي أطلقت بمساعدة حلفاء على رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، وعدّ البيت الأبيض في 15 أبريل 2024 الهجوم الذي شنته إيران على إسرائيل أنه كان فشلًا ذريعًا ومحرجًا، وذلك بعد أن تمكنت الدفاعات الجوية الإسرائيلية بمساعدة واشنطن وحلفاء آخرين من اعتراض القسم الأكبر من الصواريخ والمسيرات. فيما اعتبر وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون في 15 أبريل 2024 أن إيران قد تلقت هزيمة مزدوجة، فالهجوم كان فاشلًا بالكامل تقريبًا وأظهروا للعالم أنهم أصحاب الـتأثير الشرير في المنطقة، داعيًا إلى التركيز على التوصل لوقف لإطلاق النار في قطاع غزة وآملًا في ألا يكون هناك رد انتقامي.
دلالات متعددة
برغم التباين في تقييم الهجوم الإيراني على إسرائيل، إلا أن ذلك الهجوم كان له العديد من الدلالات التي يمكن الإشارة إلى أهمها في التالي:
(*) تغيير قواعد الاشتباك: كشف الهجوم الإيراني على إسرائيل عن تغيير لقواعد الاشتباك بين الدولتين، التي ظل استهدافهما لمصالح الآخر بعيد عن الاشتباك المباشر بينهما، حيث ظلت إسرائيل تستهدف مناطق النفوذ الإيراني في الخارج من قبيل استهداف تمركزات الحرس الثوري الإيراني ومنشآته وقادته في دول الجوار الإيراني أو استهداف مقار البعثات الرسمية لإيران في تلك الدول، ومنها ما قامت به إسرائيل باستهداف القنصلية الإيرانية في إسرائيل وتدميرها وتصفية عدد من قادة الحرس الثوري الإيراني. لذلك يعد الهجوم الإيراني على إسرائيل تغييرًا نوعيًا في قواعد الاشتباك بين الدولتين، حيث أعلنت طهران أن هذا القصف غير المسبوق هو رد على غارة دمرت القنصلية الإيرانية في دمشق وتسببت بمقتل 16 شخصًا بينهم عناصر وقياديان في الحرس الثوري الإيراني. وقد عبر عن ذلك الاتصال الهاتفي بين وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش بأن إيران لم تستهدف سوى المواقع العسكرية التي نفذت الهجوم ضد القنصلية الإيرانية في دمشق.
(*) تقويض الردع الإسرائيلي: ظلت إسرائيل تنتهج مبدأ الردع بالسعي لامتلاك منظومة من القوة العسكرية تمكنها من البقاء في إقليم يعتبرها دولة استيطانية وغير قادرة على التفاعل مع شعوبه. وقد قامت استراتيجيتها في امتلاك تلك القوة بهدف ردع خصومها عن مهاجمتها ، وهى تلك النظرية التي سقطت سقوطا مدويًا في حرب أكتوبر عام 1973 بانتصار الجيش المصري ، وكذلك سقطت في 7 أكتوبر 2023 بعد عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حركات المقاومة الفلسطينية، ثم مع الهجوم الإيراني على إسرائيل، وهو الأمر الذي جعل زعيم المعارضة الاسرائيلية يائير لابيد في 15 أبريل 2024 يتهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بالتسبب في تقويض الردع الإسرائيلي في أعقاب هجوم إيران غير المسبوق، ومحذرًا من أن حكومة نتنياهو تشكل خطرًا على إسرائيل قائلًا "لقد أصبحت هذه الحكومة ورئيسها تهديدًا وجوديًا لإسرائيل لقد سحقوا الردع الإسرائيلي".
(*) الضمانة الغربية لأمن إسرائيل: عكس التصدي الغربي بمشاركة عدد من الدول الغربية لهجمات إيران على إسرائيل استمرار التقليد الغربي وفى مقدمته التقليد الأمريكي الضامن لأمن إسرائيل، حيث شاركت كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا في مواجهة مسيرات وصواريخ طهران على تل أبيب. حيث أعلنت القيادة المركزية الأمريكية في بيان لها أنها دمرت أكثر من 80 مسيرة وستة صواريخ باليستية كانت موجهة لضرب إسرائيل من إيران واليمن يومي 13 و14 أبريل 2024، وأضاف البيان أن القوات دمرت صاروخًا باليستيًا وسبع طائرات مسيرة في مناطق سيطرة الحوثيين باليمن قبل إطلاقها، وأشار البيان إلى أن القوات جاهزة ومستعدة لدعم دفاع إسرائيل في مواجهة الأعمال الخطرة التي تقوم بها إيران، وشدد البيان على أن استمرار إيران في سلوكها غير المسبوق والخبيث والمتهور يعرض الاستقرار الإقليمي وسلامة القوات الأمريكية وقوات التحالف للخطر، وأكدت القيادة المركزية أنها ستواصل العمل مع الشركاء الإقليميين لتعزيز أمن المنطقة.
(*) استعادة التعاطف الغربي مع إسرائيل: يشكل استعادة التعاطف الغربي مع إسرائيل أحد تداعيات الهجوم الإيراني على إسرائيل، لا سيما وأن ذلك التعاطف قد تراجع بشكل حاد بعد العمليات العسكرية الإسرائيلية الغاشمة في قطاع غزة وما أدت إليه من مآسي إنسانية غير مسبوقة جعلت العديد من الرسميين وغير الرسميين يطالبون بوقف الحرب وإدخال المساعدات الإنسانية داخل قطاع غزة. ومنذ شن إيران لهجماتها على العمق الإسرائيلي بدأ التضامن الغربي مع إسرائيل سواء على المستوى الرسمي أو غير الرسمي. كان أبرزه تحرك مجلس النواب الأمريكي لإقرار حزمة من المساعدات لإسرائيل كان قد تقدم بها الرئيس الأمريكي جو بايدن ووافق عليها مجلس الشيوخ ورفضها مجلس النواب، وهي حزمة مساعدات لإسرائيل وأوكرانيا معًا. وقد أعلن رئيس مجلس النواب الأمريكي مايك جونسون في 16 أبريل 2024 أن المجلس الذي يهيمن عليه حزبه الجمهوري سيصوت هذا الأسبوع، على نصين منفصلين لتقديم مساعدات لأوكرانيا وإسرائيل في انفراجة تأتي بعد أشهر من الخلافات السياسية بين إدارة الرئيس جو بايدن والجناح اليميني المعارض في الحزب الجمهوري.
مجمل القول إن تقويض الردع بين إيران وإسرائيل يشكل أحد التداعيات الرئيسية للهجمات الإيرانية التي استهدفت العمق الإسرائيلي من إيران لأول مرة، وهو ما يغلب استدامة الصراع وتمدده سواء بشكل مباشر أو من خلال الوكلاء الإيرانيون في المنطقة، ويجعل إسرائيل تتجه نحو احتمالية الرد على تلك الهجمات، في ظل إصرار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على المضي قدمًا في توجيه ضربه مؤلمة لإيران، وهو الأمر الذي دفع رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك للحديث عن أن نتنياهو يتحرك لخدمة مصالحه السياسية الخاصة، ويعمل على إطالة أمد الحرب على أمل الاحتفاظ بمنصبه. في مقابل ذلك الإصرار الإسرائيلي أكد الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي أن بلاده سترد بشكل واسع وموجع على أدنى عمل يستهدف مصالحها، وعلى كل مرتكبيه، واصفًا الدعم الغربي من بعض الدول الغربية لإسرائيل بالأعمى، وأنه سيؤدي إلى زيادة التوتر في المنطقة.