على مر العصور، كانت حرب الأنفاق دائمًا واحدة من أكثر أشكال القتال تعقيدًا؛ لذلك، عادة ما تحاول الجيوش اختراق أهدافها تحت الأرض، مُستخدمة أقوى أسلحتها، بما في ذلك القاذفات بعيدة المدى، وقاذفات اللهب، والأسلحة الحرارية، والقنابل الخارقة للتحصينات، وغيرها من الصواريخ الجوية الموجهة بدقة.
لكن في كثيرٍ من الأحيان، إن لم يكن أغلبها، تفشل هذه التدابير في القضاء على العدو الذي يعمل من الكهوف والأنفاق. مثلما فشل البريطانيون في اختراق التحصينات الألمانية في الحرب العالمية الأولى، وبعدهم الألمان أنفسهم، عندما قهرتهم أنفاق المترو التي كانت مقرًا للمقاومة الفرنسية في الحرب العالمية الثانية.
وعلى مدار أكثر من 90 يومًا من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ثبت أن شبكة الأنفاق التي يستخدمها مقاتلو حركة حماس للتخفي والتخطيط للعمليات، وتخزين الأسلحة، ونصب الكمائن للجنود الإسرائيليين، هي أكبر نقطة ضعف لجيش الاحتلال، الذي لا يزال عاجزًا أمام كشفها.
الطريقة الصعبة
في تحليلها المنشور في "فورين بوليسي"، حول ما إذا كان الاحتلال قادرًا بالفعل على هزيمة هذه الأنفاق. أشارت دافني باراك، الأستاذة في كلية لودر للحكم والدبلوماسية والاستراتيجية بجامعة رايخمان الإسرائيلية، إلى أن الاحتلال تعلم درس الأنفاق بـ"الطريقة الصعبة".
تقول: "كانت العملية العسكرية الإسرائيلية ضد حماس في 2014 هي الحرب الأولى في القرن الحادي والعشرين التي أصبحت فيها الأنفاق النقطة المحورية للعمليات العسكرية. لكن التركيز الإسرائيلي على الأنفاق -إذا كان هناك تركيزًا منسقًا في ذلك الوقت- كان مخصصًا إلى حد كبير للأنفاق العابرة للحدود، وبدرجة أقل على الحشد العسكري المتزايد لحماس تحت الأرض داخل قطاع غزة".
وبعد عام 2014، تحولت إسرائيل إلى نهج أكثر استراتيجية وكثفت جهودها. أنشأت وحدات النخبة المتخصصة في حرب الأنفاق، وبنت هياكل الأنفاق الخاصة بها لتدريب الجنود، وحسنت اكتشاف الأنفاق بوحدات متنقلة، وأجرت أبحاثًا وتطويرًا مستهدفًا، وتوصلت إلى حلول تكتيكية لتعزيز الاستعداد، وعززت التعاون مع شركاء تل أبيب وحلفائها.
لكن، كما اتضح خلال الأشهر الثلاثة السابقة، يبدو أن ذلك بلا جدوى أمام أنفاق غزة.
يقول التحليل: "دخل الجيش الإسرائيلي وهو يمتلك القدرات العسكرية الأكثر تقدمًا في اكتشاف الأنفاق ورسم خرائطها وتحييدها وتدميرها. ومع ذلك، فإن هذا لم يمنع حماس، ولم يقلل من التحدي المتمثل في القتال في بيئة تحت الأرض".
وأضافت: "حتى الوحدات الأكثر تخصصًا في الجيش الإسرائيلي تكبدت خسائر؛ بسبب مداخل الأنفاق المفخخة".
جيل جديد
خلال العدوان، كشفت وحدات الاحتلال عن جيل جديد من أنفاق حماس. حيث تم تعزيز الهياكل البدائية التي أنشئت في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بألواح خشبية. وصارت الشبكات الحالية أعمق وأكثر صلابة، واستخدمت حماس تقنيات حفر مدنية متقدمة لحفرها، رافعة بقدراتها إلى مستوى أكبر.
ويشير التحليل إلى أن اعتماد حماس المتزايد على الأنفاق وجهود البناء المتقنة التي تبذلها قد أتى بثماره "لم يسبق في تاريخ حرب الأنفاق أن تمكن أي مُدافع من قضاء أشهر في مثل هذه الأماكن الضيقة".
يضيف: "إن عملية الحفر نفسها، والطرق المبتكرة التي استخدمت بها حماس الأنفاق، وبقاء الجماعة تحت الأرض لفترة طويلة، كانت أمورًا غير مسبوقة".
تقول باراك: "هذه الفتحات في الأساس ثقوب مميتة في الأرض. يمكن أن تختلف في أكثر من شكل، وعادة ما تكون مموهة ومفخخة. وهي تؤدي إلى ممرات الأنفاق التي تتيح الوصول إلى شبكة الأنفاق الأوسع".
وتلفت إلى أنه "أثناء عملية الاجتياح، اكتشف الجنود الإسرائيليون مئات من حفر الأنفاق، مما جعل التقدم بطيئًا ومعقدًا. ومكنت هذه الحفر مقاتلي حماس من الخروج من الأرض، وإطلاق الأسلحة الآلية أو قاذفات الصواريخ على القوات، والاختفاء في غضون ثوانٍ".
ورغم أن جيش الاحتلال -حسب زعمه- قام بإغلاق أو تدمير العديد من مداخل الأنفاق كإجراء مؤقت، حتى تتمكن قواته من مواصلة تقدمها وتأمين موضع قدمها على الأرض. لكنه لا يزال يحاول رسم خريطة لشبكة الأنفاق ومعرفة المزيد عنها.
ويشير التحليل إلى أن الاحتلال "أرسل روبوتات وطائرات بدون طيار مزودة بكاميرات فيديو إلى الأنفاق، وكلابًا يمكنها اكتشاف وجود متفجرات أو أشخاص"، بينما بقي جنوده مذعورين على سطح الأرض "إن تخطي أي من هذه الخطوات من شأنه أن يكون قاتلًا لجنود الجيش الإسرائيلي، والرهائن الإسرائيليين".
بيئة عسكرية معقدة
تلفت باراك إلى أن قوات الاحتلال "تعمل في بيئة عسكرية معقدة، تجمع بين حرب المدن وحرب الأنفاق وعمليات البحث والإنقاذ".
وأكدت أنه في غزة "زعزعت الأنفاق الجنود، وتسببت في خسائر كبيرة، وجعلت النصر أقل يقينًا". مُشددة على أنه "أصبح من الواضح أن إسرائيل غير قادرة على اكتشاف أو رسم خريطة لشبكة أنفاق حماس بالكامل".
وللوصول إلى هناك، أفادت التقارير أن إسرائيل قررت ضخ كميات كبيرة من مياه البحر إلى الأنفاق، في محاولة من قبل جيش الاحتلال للحصول على بعض الميزة العسكرية في التضاريس التي استغلها مقاتلو حماس لعقود من الزمن.
ربما لن تكون هذه هي المرة الأولى التي يقوم فيها أحد الجيوش بإغراق أنفاق عدوه خلال الحرب. لكن، يلفت التحليل إلى أن القيام بذلك بالطريقة التقليدية -عبر فتحات الأنفاق- له تأثير محدود فقط.
أيضًا، هناك مخاوف من أن يؤدي الضخ الأفقي لمياه البحر إلى الأنفاق إلى تلويث مصادر المياه الجوفية.
وبينما بعض الأنفاق بعيدة جدًا عن الشاطئ، يُرجح أن البعض الآخر يوجد بشكل مستقل بعيدًا عن الشبكة التي يقتفي أثرها الاحتلال. قد تمتنع إسرائيل عن استخدام هذه الطريقة تمامًا في الأنفاق التي يُعتقد أن الأسرى الإسرائيليين محتجزون فيها.
ومع ذلك، يلفت التحليل إلى أن "هذا النهج يتيح لإسرائيل -على الأقل من الناحية النظرية- تحقيق هدفها، المتمثل في تدمير أجزاء كبيرة من البنية التحتية للأنفاق".