تظل المشرحة المكان الذي لا يحلم أحد بالذهاب إليه، إلا أن الوضع في غزة مختلف كليًا، فالمواطنون مجبرون يوميًا على الذهاب إلى تلك الساحة المكتظة بالمتكفنين، فهنا يحاول رجل عبثًا حبس دموعه، وهو يحمل جثمانًا صغيرًا في كفن أبيض، وهناك نساء يبكين أطفالهن بينما يؤدي رجال صلاة الجنازة.
ففي مشارح قطاع غزة يتجدد الموت يوميًا، وتتجدد معه حكايات الزائرين، فالكل يهرول إلى المشرحة يبحث عن ذويه، فيري جثث وأشلاء الآخرين تملأ المكان ليزداد الوجع أوجاعًا، فلا يعلم مَن منهم سيأتي آخرون للبحث عنه غدًا في ظل تجدد القصف الإسرائيلي.
وفي مستشفى ناصر جنوب قطاع غزة، واحد من المستشفيات الذي لا يزال صامدًا في وجه القصف الإسرائيلي، يصله الشهداء من كل حدب صوب، ودائما ما تكتظ مشرحته بالشهداء الذين تحمل جثثهم حكايات وروايات مختلفة.
ترقد جثة محمد وجوارها تجلس والدته جمانة مراد، التي نزحت مع عائلتها من مدينة غزة إلى مدرسة خالد الحسن في خان يونس، حيث أقاموا بخيم مؤقتة، إلا أن القصف باغتهم مرة أخرى ليبادر نجلها الشهيد بإنقاذ الناس لكن قصفًا ثانيًا سلبه روحه بعد أن أصابته شظية قاتلة في الرأس.
تتابع الأم التي يعتصر قلبها على شهيدها بأن "محمد" كان نجلها وأخيها وحبيبها الذي تشكو له هم الدنيا، لتقاطعها شقيقته "يا رب... ارمِ الصبر على قلبي يا الله".
جمانة وابنتها لم يكونا وحدهما زائري المشرحة بل جلس أب يبكي أبناءه الثلاثة ووالده، جميعهم يتشحون بالكفن الأبيض المدون عليه أسمائهم، من بينهم رضيع، وفور وصول مركبة لنقلهم إلى مثواهم الأخير بدأت تتصارع دموعه على وجنتيه المتعبة المرهقة، لتأتي لحظة الوداع الأخيرة، فما كان منه إلا أن كشف وجهه والده المغطى بالدم وقبّله "الله يرحمك يابا".