شهد منتجع كامب ديفيد الرئاسي في 18 أغسطس 2023 وقائع أول قمة ثلاثية من نوعها بين الرئيس الأمريكي جو بايدن ونظيره الكوري الجنوبي يون سوك يول، ورئيس وزراء اليابان فوميو كيشيدا، لتعزيز التعاون الثلاثي في مجالات التعاون التقني والصناعي والأمن الاقتصادي ودعم مرونة سلاسل التوريد العالمية والتشاور السياسي وتبادل المعلومات بشأن أي تهديدات تعترض أيًا من الدول الثلاث، خاصة من الأنشطة الصاروخية الكورية الشمالية.
تأتي القمة التاريخية في أعقاب مساعٍ أمريكية حثيثة لتحييد الخلافات بين سول وطوكيو على خلفية قضايا الاستعباد الجنسي خلال فترة الاحتلال الياباني لشبه الجزيرة الكورية، ضمن مسار تقارب واضح مع اليابان يتبناه الرئيس يون سوك يول منذ وصوله للسلطة في 2022، رغم المعارضة الداخلية لذلك التحرك.
وتكتسب القمة زخمًا استثنائيًا، بالتزامن مع نشاط روسي ملحوظ في شرق المحيط الهادئ وتقارب موسكو مع بيونج يانج، كما كان لافتًا تصاعد الإدانات الكورية واليابانية لسلوك الصين الذي وصفه بيان "روح كامب ديفيد" المشترك بـ"الخطير والعدواني" في بحر الصين الجنوبي، على الرغم من التحفظات التقليدية لسول وطوكيو وإحباط مساعي تأسيس مكتب اتصال لحلف الناتو في اليابان خلال قمة الحلف في يوليو الماضي بفيلنيوس.
تحالف استراتيجي
رسمت القمة الثلاثية ملامح تحالف استراتيجي أكثر تماسكًا بين الولايات المتحدة وأهم حليفين آسيويين يستضيفان نحو 82,500 من القوات الأمريكية بواقع 54,000 في اليابان ينتشرون في 85 منشأة، بينما يوجد في كوريا الجنوبية 28,500، فيما يخلق الحاجة القصوى لتعميق التشاور الأمني بين البلدان الثلاث دون عوائق لمواجهة التحديات والتهديدات المشتركة، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
(*) البُعد المؤسسي: خلقت قمة كامب ديفيد التاريخية تحالفًا أمنيًا جديدًا في منطقة المحيطين يقوم على مكتسبات تبادل الزيارات بين الزعيمين الكوري الجنوبي والياباني لطوكيو وسول بدعم من واشنطن، ويسعى لتثبيت صيغة التعاون الثلاثي والمصالح بعيدة المدى بما يتجاوز السياسات المرحلية التي تختلف باختلاف الإدارات.
وأفرزت القمة آليات ثلاثية للتشاور بين مستشاري الأمن القومي ووزراء الدفاع والخارجية، ودورية انعقاد القمة على أساس سنوي بين الزعماء الثلاث. كما أقرت القمة إنشاء خط اتصال ساخن لمواجهة الأزمات، وتبنت وثائق أساسية تتناول أولاها وجوب التشاور في حالة وجود تهديدات مشتركة.
ووضعت وثيقة مبادئ كامب ديفيد، التي أشارت للقيم والمصالح المشتركة لواشنطن وطوكيو وسول، وأن الهدف من التعاون الثلاثي تعزيز الأمن والاستقرار والحفاظ على حرية وانفتاح منطقة الإندوباسيفيك في إطار النظام الدولي المبني على القواعد، ودعم "مركزية رابطة جنوب شرق آسيا" في الترتيبات الإقليمية.
(*) التعاون الأمني والعسكري: أحدثت القمة اختراقًا مهمًا في سياسة الدفاع الكورية، بعد ما اتفق الزعماء على عقد مناورات دفاعية ثلاثية، وتفعيل الآلية تبادل البيانات والتحذير الفوري لإطلاق الصواريخ الكورية الشمالية التي أقرها وزراء دفاع الدول الثلاث في 3 يونيو 2023، فضلًا عن إنشاء مجموعة عمل ثلاثية لمكافحة التهديدات الإلكترونية من قِبل بيونج يانج. وبينما يأتي التهديد الكوري الشمالي على رأس الأولويات المشتركة للتعاون الدفاعي إلا أن تهديد المصالح الذي يوجب التشاور والتنسيق بحسب نائب مستشار الأمن القومي الكوري الجنوبي كيم تيه-هو، يشمل أي "نزاع تجاري أو تهديد صاروخي كوري شمالي أو استفزاز خطير في البحر أو أي تهديد داخل أو خارج المنطقة".
ومن اللافت إدانة الدول الثلاث لما وصفوه بـ"السلوك العدواني والخطير" للصين و"المطالبات غير القانونية" في بحر الصين الجنوبي ومعارضتهم أي محاولات أحادية لتغيير الوضع القائم في منطقة الإندوباسيفيك، في إشارة للنزاع حول الحدود البحرية في بحر الصين الجنوبي وأزمة تايوان.
(*) التعاون التقني والأمن الاقتصادي: يمثّل الأمن الاقتصادي وضمان مرونة سلاسل التوريد العالمية عمومًا وأشباه الموصلات والبطاريات الكهربائية والطاقة النظيفة على وجه التحديد إحدى أولويات التعاون الثلاثي، إذ اتفق بايدن ويون وكيشيدا على تفعيل برامج تدريبية لأنظمة إنذار مبكر لاضطرابات سلاسل التوريد، وهو ما يظهر التخوفات بشأن احتمالات ضم الصين لجزيرة تايوان وإمكانات التعاون بين البلدان الثلاث المنتجة لأشباه الموصلات المتقدمة، فضلًا عن تقليل الاعتماد على مصادر الطاقة الروسية بين حلفاء الولايات المتحدة في ظل دعم طوكيو وسول لكييف في الحرب الروسية الأوكرانية.
حدود التحالف
على الرغم من المخرجات التي تضمنتها قمة كامب ديفيد التاريخية، إلا أنها تواجه تحديات كبيرة تهدد تماسك ذلك التحالف الواعد وتتمثل في النقاط التالية:
(&) الخلافات الكورية اليابانية: خفتت الخلافات بين سول وطوكيو بإرادة سياسية لمواجهة تهديدات كوريا الشمالية بالدرجة الأولى، إلا أن التقارب بين البلدين يواجه عقبات الرفض الشعبي الكوري في ظل آثار احتلال شبه الجزيرة الكورية وما خلفته من أزمة الاستعباد الجنسي.
كما لا تزال الخلافات الحدودية أحد مسببات التوتر، ففي يوليو 2023، قدمت طوكيو احتجاجًا رسميًا لسول لإجرائها تدريبات عسكرية على جزر متنازع عليها بين البلدين "جزر دوكدو في كوريا، أو جزر تاكيشيما في اليابان".
(&) الموقف من الصين: على الرغم من المساعي الأمريكية لوضع الصين على رأس التحديات الأمنية لحلفائها في منطقة المحيطين، إلا أن القمة لم تنجح في النص على التزام أمني واضح بالتصدي لنفوذ الصين في المنطقة وعلى رأسها التعهد بالمساهمة في الدفاع عن تايوان في حالة أي هجوم صيني محتمل على الجزيرة. وفيما تؤشرالإدانات القوية الصادرة عن القمة إلى تصاعد القلق بشأن التحركات الصينية في المنطقة وتزايد تعاون روسيا مع كوريا الشمالية، إلا أن موقف سول من بكين لا يزال مرتبطًا بأي تحول محتمل في سياسة الأخيرة تجاه بيونج يانج لإنشاء تحالف صلب يوازي التحالف الثلاثي الناشئة، ومن ثم من الممكن أن تتحرك الصين لتخفيف التوتر مع جيرانها الآسيويين وعلى رأسهم كوريا الجنوبية عبر تحريك ملف التفاوض مع كوريا الشمالية وإقناعها بضبط وتقليص عمليات إطلاق الصواريخ.
وإجمالًا؛ مثّلت قمة كامب ديفيد الثلاثية بين الرئيس الأمريكي ونظيره الكوري الجنوبي ورئيس وزراء اليابان أحدث محاولات واشنطن لبناء هيكل أمني مترابط في منطقة المحيطين الهندي والهادئ لمواجهة النفوذ العسكري الصيني، إلا أن التحالف على إمكاناته الواعدة لا يزال يفتقد للتماسك في ظل الخلافات بين طرفيه الآسيويين والاستراتيجية الكورية الحذرة في التعامل مع الصين.