الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

ما التكلفة الاقتصادية لتظاهرات فرنسا؟

  • مشاركة :
post-title
أحداث شغب فرنسا-أرشيفية

القاهرة الإخبارية - رضوى محمد

في الثامن والعشرين من يونيو 2023؛ بدأت في أغلب المدن الفرنسية، احتجاجات لحقتها تظاهرات بسبب مقتل شاب يُدعي "نائل" من أصول جزائرية على يد شرطي. ويرى بعض المراقبين للشأن الفرنسي، أن ثمة ظروفًا اقتصادية بالإضافة إلى مقتل الشاب، فجرت الاحتجاجات، التي صاحبتها أعمال شغب طالت بعض المرافق الحيوية، وهو ما يزيد احتمالية حدوث بعض الخسائر الاقتصادية في فرنسا خلال الفترة المقبلة.

في ضوء ما سبق، يهدف هذا التحليل إلى رصد الضغوطات الاقتصادية التي تعاني منها فرنسا في الفترة الأخيرة، مع التعرف على تكلفة الخسائر التقديرية التي ستخلفها التظاهرات الحالية، والتعرف على سياسات رد الفعل المتوقعة للحكومة الفرنسية تجاه هذه المظاهرات.

الضغوطات الاقتصادية

ثمة ضغوطات اقتصادية يُعاني منها الاقتصاد الفرنسي في الفترة الأخيرة، رغم تحقيقه بعض المؤشرات الاقتصادية الإيجابية بالمقارنة بعام 2022، إلا أن هناك وفقًا لبعض المراقبين، ضغوطات اقتصادية داخلية، شكلت النواة الرئيسية للتظاهرات الحالية، يمكن توضيحها على النحو التالي:

(*) معدلات التضخم:يتضح من الشكل رقم (1) ارتفاع معدلات التضخم في فرنسا بشكل كبير خلال الربع الأول من عام 2023، إذ بلغت 6.3% في فبراير 2023 والتي انخفضت بشكل نسبي في بداية الربع الثاني من نفس العام الجاري، حيث استقرت عند 4.5% في يونيو 2023، وعلى الرغم من هذا الانخفاض، إلا أن معدلات التضخم في فرنسا تظل أعلى من المعدل المُستهدف من قبل البنك المركزي الأوروبي البالغ 2%، وهو ما يعني أنه مازالت هناك ضغوط تضخمية يُعاني منها المواطن الفرنسي.

شكل (1) يوضح معدلات التضخم في فرنسا

(*) العجز الحكومي: ترتب على زيادة الإنفاق الحكومي في فرنسا، مثل الإنفاق على برامج الحماية الاجتماعية، ورفع الحد الأدنى للأجور؛ لكبح جماح معدلات التضخم المرتفعة، ارتفاع العجز الحكومي خلال عام 2022 بالمقارنة بالأعوام السابقة لعام 2020، فقد سجل 4.7% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022 بالمقارنة بـ2.3% في عام 2018، وهذا ما يوضحه الشكل رقم (2).

وبرصد الأثر الاقتصادي لارتفاع هذا المؤشر، يتضح أن ارتفاع العجز الحكومي يقابله ارتفاع في أسعار الفائدة، هو ما شهده الاقتصاد الفرنسي، حيث ارتفع سعر الفائدة إلى 4% في يونيو 2023 مقارنة بـ0% في يوليو 2022، وتسبب هذا الارتفاع في التأثير على الأنشطة الاقتصادية؛ بسبب ارتفاع تكلفة الاقتراض.

شكل (2) يوضح العجز الحكومي في فرنسا بين عامي 2014 و2022

(*) أسعار الطاقة: شهدت فرنسا في أواخر عام 2022 عددًا من الاحتجاجات؛ بسبب ارتفاع أسعار الطاقة، وقد كانت أقل مما هي عليه حاليًا، فكما يوضح الشكل رقم (3) سجل سعر البنزين 2.1 دولار لكل لتر في يونيو 2023 بالمقارنة بـ1.77 دولار في أكتوبر 2022، فقد كان هذا الارتفاع من الدوافع التي حفزت المتظاهرين على الاحتجاج والمطالبة بتخفيض سعر المحروقات، وهو ما حملته شعارات بعض التظاهرات في بعض المدن الفرنسية.

شكل (3) يوضح أسعار البنزين في فرنسا من يوليو 2022 إلى يونيو 2023

(*) معدلات الدين الخارجي: يتضح من الشكل رقم (4) ارتفاع معدلات الدين الخارجي بشكل كبير في بداية عام 2023، إذ بلغ 6,8 تريليون يورو في مارس 2023، بالمقارنة بنحو 6,4 تريليون يورو في 2022، فزيادة الديون الخارجية الفرنسية استنزفت جزءًا كبيرًا من إيرادات الدولة ومعدلات الناتج المحلي الإجمالي المُتحققة، وذلك بسبب ارتفاع تكلفة خدمة الدين، وهو ما شكل ضغطًا كبيرًا على الدولة الفرنسية في ظل الاحتجاجات الراهنة.

شكل (4) يوضح معدلات الدين الخارجي لفرنسا
انعكاسات متنوعة:

قراءة الأرقام التي وضحتها الأشكال السابقة، تُشير إلى أن التظاهرات الحالية في فرنسا، ستكون لها تكلفة اقتصادية، يُمكن رصدها على النحو التالي:

(&) التكلفة التقديرية للخسائر: أشار التقدير الأولي لشركات التأمين إلى أن حجم الخسائر الاقتصادية في فرنسا من جراء الاحتجاجات، تزيد قيمتها على 100 مليون يورو، وهي ناتجة عن استهداف وتدمير عدد من الشركات التي تضم سلعًا مرتفعة الثمن. كما أشار كليمان بون "وزير النقل الفرنسي" إلى أن هناك خسائر تُقدر بنحو 8 ملايين يورو، ناتجة عن استهداف وتدمير 12 حافلة من قبل المتظاهرين، هذا فضلًا عن تضرر 492 مبني واحتراق 1000 مركبة، الأمر الذي عمل على رفع تكلفة الاحتجاجات بشكل كبير، ومن هنا يُمكن القول إن التظاهرات الحالية التي تجوب المدن الفرنسية وتكاليف الخسائر التي ستتحملها الدولة، سيترتب عليها العديد من الانعكاسات السلبية على الاقتصاد الفرنسي، والتي سنعرضها في النقاط التالية:

(-) ارتفاع عجز الموازنة: من المتوقع أنه ستنعكس آثار أعمال الشغب والتظاهرات، على زيادة الإنفاق الحكومي في فرنسا بشكل كبير خلال الفترة القادمة كمحاولة لإعادة ترميم المباني التي تدمرت وتحقيق الاستقرار للاقتصاد الفرنسي، الذي سيحتاج إلى ضخ المزيد من الأموال لكي يعود لوضعه الطبيعي، ومع انخفاض بعض الإيرادات بسبب الأحداث السياسية، سيرتفع عجز الموازنة خلال الفترة المقبلة في فرنسا.

(-) انخفاض الإيرادات السياحية:ألقت التظاهرات بظلالها السلبية على القطاع السياحي في فرنسا، إذ يترتب على أعمال التخريب والتدمير تأثير سلبي قوي على إقبال السائحين إلى الدولة محل النزاع الداخلي، فقد قام العديد من السائحين بإلغاء الحجوزات في جميع المناطق التي تشهد أعمال العنف، وهو ما سيُفقد فرنسا جزءًا كبيرًا من إيراداتها، فمن خلال الشكل رقم (5) يتضح أن إيرادات قطاع السياحة بلغت 5489 مليون يورو في إبريل2023 والتي قد انتعشت بعد موجة من الانخفاض في أواخر عام 2022 وأوائل عام 2023، فمع هذه الأحداث من المحتمل أن تعاود فرنسا تحقيق انخفاض لإيراداتها من قطاع السياحة.

شكل (5) يوضح إيرادات قطاع السياحة من مايو 2022 إلى أبريل 2023 (بالمليون يورو)

(-) ارتفاع معدلات التضخم:فمن خلال الشكل رقم (1) يتضح أن معدلات التضخم في فرنسا بدأت تتحسن، ولكنها مازالت أكبر من المستهدف، فمع وقوع هذه التظاهرات التي تعمل على انتشار أعمال النهب والتخريب في المنشآت العامة، سيقل الإنتاج في الاقتصاد الفرنسي، ومن ثم سيقل المعروض من السلع في الأسواق، وهو ما سيتسبب في ارتفاع معدلات التضخم بشكل أكبر من الوضع الحالي.

(-) انخفاض الناتج المحلي الإجمالي: وفقًا للشكل رقم (6) تلاحظ أن الناتج المحلي الإجمالي في فرنسا، بدأ يعاني من الانخفاض في ديسمبر 2022، إذ بلغ 2782.91 مليار دولار بالمقارنة بـ2957.88 مليار دولار في عام 2021، وهو ما يُدعم نسبة كبيرة لاحتمالية انخفاض هذا الناتج بشكل أكبر، نتيجة التظاهرات الحالية التي ستعوق الإنتاج في المدن الفرنسية، وقد أشارت توقعات المفوضية الأوروبية إلى أن معدل نمو الاقتصاد الفرنسي سيُسجل 1.4 % في عام 2024 بالمقارنة بـ2.6 % في عام 2022، وهو ما يؤكد توقعات تحقيق التباطؤ في الاقتصاد الفرنسي.

شكل (6) يوضح الناتج المحلي الإجمالي من 2013إلى2022 (بالمليار دولار)

(&) زيادة إجمالي الدين العام:من المحتمل أن تتسبب التظاهرات الفرنسية في زيادة إجمالي الدين العام في البلاد، فقد بلغ 111.6 % في عام 2022، وعليه من المتوقع أن يزداد إلى 109.6% في عام 2023 و109.5 % في عام 2024، وهو ما يوضح أن وضع الدين العام داخل فرنسا لا يتسم بالاستقرار، فالحدود الآمنة لهذا المؤشر تتراوح بين 30% إلى 50%، فالدين العام الفرنسي يبعد كثيرًا عن هذه الحدود الآمنة، خاصة أن التظاهرات الحالية ستُفاقم من هذا الوضع.

(&) تدهور القطاع المصرفي: تضمنت أعمال التخريب والتدمير في فرنسا، تعرض 250 منفذًا مصرفيًا للهجوم والنهب، وهو ما سيعرض القطاع المصرفي في فرنسا للضعف، بسبب نقص السيولة وانخفاض الودائع والقروض بسبب ارتفاع درجة المخاطرة، وهو ما سيزعزع النظام النقدي الفرنسي، إذا استمرت أعمال النهب تستهدف البنوك الفرنسية.

رد الفعل حكومي:

قراءة انعكاسات الخسائر الاقتصادية للتظاهرات الفرنسية، قد تجبر الحكومة على اتخاذ إجراءات تجاه المحتجين، يمكن التطرق إلى ملامحها المحتملة على النحو التالي:

(1) النوع الأول (سياسة استمرار المواجهة):والمتمثل في استمرار الحكومة الفرنسية في استخدام سياسة الردع والمواجهة ضد المتظاهرين، باعتبارهم دعاة تخريب ودمار للبلاد، وهذا يجعلها لا تستمع إلى المطالب الاقتصادية للمعارضين، مع احتمالية فرض حالة الطوارئ واستمرار حملة الاعتقالات، ويُمكن القول إن تبني هذه السياسة سيجعل الاقتصاد الفرنسي في وضع خطير، وسينجرف نحو مزيد من الأزمات الداخلية التي تعصف بالمؤشرات الاقتصادية الكلية للدولة.

(2) النوع الثاني (الاستجابة للمطالب):وشمل أن تقوم الحكومة الفرنسية ببعض الإصلاحات الاقتصادية، كمحاولة لتقليل غضب المعارضة والاستجابة لبعض مطالبهم، ومنها تعديل نظام التقاعد وزيادة فرص العمل في الاقتصاد، مع تخفيض أسعار المحروقات، وتعتبر هذه السياسة، هي الأصلح للاقتصاد الفرنسي والتي ستحقق النفع العام لفرنسا، ومن المرجح أن تقوم الحكومة الفرنسية بهذه السياسة، إذا استمرت التظاهرات لمدة أكبر؛ حفاظًا على الاقتصاد الفرنسي من التراجع.

في النهاية،يُمكن القول إن استمرار التظاهرات الفرنسية سُتؤزم من الوضع الاقتصادي، وهو ما يُحتم على الحكومة الفرنسية أن تتخذ إجراءات تتسم بالرشادة السياسية والاقتصادية، للحفاظ على أمن واستقرار فرنسا، فالقضاء على السبب الرئيسي للأزمات أفضل من إخمادها بشكل مؤقت، ولهذا من المحتمل أن تتبع الحكومة الفرنسية سياسة الاستجابة لبعض المطالب المشروعة للمُحتجين؛ لتحقيق المنفعة العامة للاقتصاد الفرنسي والقضاء على مشكلات المواطنين.