تأتى زيارة رئيس الوزراء الصيني لي تشيانج إلى ألمانيا في 19 يونيو 2013، والتي تعد الأولى له بعد توليه منصبه في مارس 2023، بهدف إجراء محادثات مع المسؤولين الألمان حول قضايا العلاقات الثنائية، ومناقشة السياسة الألمانية إزاء الصين في ظل تشابك المصالح الاقتصادية وتنامي العلاقات التجارية، فضلًا عن قضايا السلام والاستقرار العالميين وفى مقدمتها الحرب الروسية الأوكرانية التي تتمايز بشأنها رؤية البلدين في كيفية تسويتها، برغم إعلان الصين عن مبادرتها للسلام بين روسيا وأوكرانيا، إلا أن الأوروبيين اعتبروا معظم بنودها أقرب إلى التأكيد على مبادئ القانون الدولي، دون وجود خطة ملزمة لروسيا، لإنهاء الحرب التي كانت تداعياتها شديدة الوطأة على الاقتصادات الأوروبية، وفى مقدمتها الاقتصاد الألماني، الذى كان يعتمد على إمدادات الطاقة الروسية بشكل رئيسي.
دوافع الزيارة:
وفقًا لوزارة الخارجية الصينية فإن اختيار ألمانيا لتكون المحطة الأولى في أول زيارة خارجية لرئيس الوزراء يعكس الأهمية الكبيرة التي توليها الصين لعلاقاتها مع ألمانيا. لذلك تكتسب الزيارة أهميتها في هذا التوقيت لدوافع متعددة:
أولها، أنها تأتى عقب إعلان ألمانيا عن استراتيجية جديدة للأمن القومي في 14 يونيو 2023، وبررتها بأن الحرب الروسية الأوكرانية مثلت نقطة تحول في إدراك طبيعة التهديدات الجديدة، وتغير بيئتها، وتبنى استراتيجيات داخلية وخارجية لمواجهة تلك التهديدات، واعتبرت الاستراتيجية الصين شريكًا لا يمكن الاستغناء عنه ومنافسًا لا يمكن عزله، كما وصفت الاستراتيجية تحركات الصين بأنها تزيد من الضغوط على الاستقرار الإقليمي والأمن الدولي، كما أنها تتصرف بطريقة تتعارض مع المصالح والقيم الغربية، ولا تحترم حقوق الإنسان.
وثانيها، أن ألمانيا تتمتع وفقًا للرؤية الصينية بمكانة قيادية داخل القارة الأوروبية، فهي تعد الطرف الأهم في أوروبا سواء من حيث الاقتصاد الأكبر داخل المنظومة الأوروبية أو عدد السكان فهي الأكثر تعدادًا في أوروبا. فوفقاً لمكتب الإحصاء الاتحادي في ألمانيا مطلع يناير 2023 فإن عدد سكان ألمانيا ارتفع إلى أعلى مستوى له ليصل إلى 84,3 مليون نسمه في 2022، بزيادة 1,1 مليون في 2022 مقارنة بنهاية 2021 لارتفاع أعداد المهاجرين بفضل سياسة الباب المفتوح التي تبنتها المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل. وهو ما جعل بعض الخبراء يعتبرون المراجعة التي قامت بها ألمانيا في استراتيجيتها الجديدة للأمن القومي تضفي عليها مكانة محورية في قيادة القارة الأوروبية، لا سيما وأنها تعاملت مع التهديدات التي تواجه ألمانيا مثل مهددات الأمن السيبراني، والتغيرات المناخية، واللاجئين برؤية أوروبية باعتبار أنها مسؤولة عن حماية الأمن الأوروبي، وهو ما جعلها أيضًا تشير في تلك الاستراتيجية إلى تعزيز مكانة حلف الناتو ولعب دور متقدم داخله، وذلك بالشراكة مع الدول الأوربية الأعضاء فيه والولايات المتحدة الأمريكية.
وثالثها، أن ألمانيا تعد الشريك التجاري الأول للصين في أوروبا، وفي ظل الحروب التجارية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، فإن بكين تسعى للظهور بأنها تقيم علاقات بناءة مع الدولة ذات الثقل داخل القارة الأوروبية. وهو ما سينعكس على تعزيز المجالات الاقتصادية برغم الحديث الألماني عن المنافسة الصينية التي تتسم بطابع عدائي، والسعي لتغيير النظام العالمي القائم. وقد عبر عن تلك التوجهات المستشار الألماني أولاف شولتس خلال لقائه برئيس الوزراء الصيني في 20 يونيو 2023 بأن ألمانيا تراهن على توسيع العلاقات الاقتصادية في آسيا، حيث إنها لا تريد أن تنغلق على شريك واحد، وإنما تسعى إلى إرساء شراكات متوازنة، مؤكداً أنه لا مصلحة لبلاده في مقاطعة الصين اقتصاديًا.
مجالات الاهتمام:
تتنوع مجالات الاهتمام بين ألمانيا والصين، والتي انعكست على قضايا المباحثات بين رئيس الوزراء الصيني والمسؤولين الألمان، وفى مقدمتهم الرئيس الألماني فرانك- فالتر شتاينماير، والمستشار الألماني أولاف شولتس. لذلك يمكن الإشارة إلى أبرز تلك المجالات في العناصر التالية:
(*) العلاقات الاقتصادية: جاء تأكيد الرئيس الألماني شتاينماير خلال استقباله لرئيس الوزراء الصيني تشيانج على أن التعاون بين البلدين يظل مهمًا، لكنه تغير في السنوات الأخيرة، فالصين شريكة لألمانيا وأوروبا، لكنها أيضًا خصم ومنافس على نحو متزايد على الساحة السياسية، ليعكس ما جاء في توجهات استراتيجية الأمن القومي الجديدة. وبرغم ذلك تشكل المصالح الاقتصادية بين بكين وبرلين دافعًا للاعتماد المتبادل بين الدولتين، حيث تشير الإحصاءات والبيانات إلى أن الصين تعد أكبر شريك تجاري لألمانيا للعام السابع على التوالي في عام 2022، إذ بلغت قيمة التجارة الثنائية 300 مليار يورو تقريبًا. كما وصلت تدفقات الاستثمار الألمانية المباشرة في الصين إلى أعلى مستوياتها في عام 2022 حيث بلغت 11,5 مليار يورو، كما تعد الصين سوق حيوي لشركات صناعة السيارات الألمانية في ألمانيا مثل مرسيدس بنز، وبي أم دبليو، وفولكس فاجن. لذلك جاء اجتماع رئيس الوزراء الصيني خلال الزيارة مع مجتمع الأعمال الألماني، والذي ضم ممثلين عن الشركات السابقة وشركات ومؤسسات أخرى، داعيًا إلى دعم العولمة الاقتصادية لتحقيق منافع مشتركة للجانبين الصيني والألماني، والحفاظ على سلاسل الصناعة والتوريد، وتعزيز الاستثمار في المجالات الناشئة وريادية الأعمال، من خلال الانفتاح والتعاون المشترك.
(*) التغيرات المناخية: اقترح رئيس الوزراء الصيني لي تشيانج خلال اجتماعه مع المستشار الألماني أولاف شولتس معالجة تغير المناخ كأحد المبادئ الرئيسية للتعاون بين الصين وألمانيا في المستقبل، بما يتعين تعزيز التعاون في التكنولوجيا والاستثمار في سلسلة صناعة الطاقة الخضراء. وقد اعتبر المسؤولان أن المناخ يوفر أرضية مشتركة للبلدين، للتغلب على التوترات حيث قال تشيانج يجب أن تصبح الصين وألمانيا شريكتين صديقتين للبيئة، بينما دعا أولاف البلدين المصدرين الرئيسيين لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون في العالم إلى أن يتوليا معًا مسؤولية مكافحة تغير المناخ في إشارة إلى الصين والولايات المتحدة الأمريكية.
(*) قضية تايوان: تشكل قضية تايوان معضلة رئيسية في العلاقات الغربية الصينية بشكل عام، لا سيما وأن ألمانيا تتبنى الرؤية الأمريكية الرافضة للتهديدات الصينية لتايوان. وهو الأمر الذي تجسد في استراتيجية الأمن القومي الألمانية الجديدة التي جعلت من التهديدات الصينية لتايوان والاتهامات الموجهة لبكين باضطهاد أقلية الإيغور، وعدم إدانة الرئيس الصيني شي جين بينج للغزو الروسي لأوكرانيا سبباً في تعميق الهوة بين برلين وبكين.
(*) السلام العالمي: وفقًا لوكالة شينخوا الصينية أكد رئيس الوزراء الصيني أن بلاده مستعدة للعمل مع ألمانيا، للمساهمة في الاستقرار والازدهار العالميين، كما قال لي في المؤتمر الصحفي المشترك مع المستشار الألماني أولاف شولتس بأن التعافي الاقتصادي العالمي يفتقر إلى ديناميكية نمو، وأن الصين وألمانيا، بصفتهما بلدين كبيرين ومؤثرين، ينبغي عليهما العمل معًا بشكل وثيق من أجل السلام والتنمية العالميين، كما أشار لي إلى أن الصين تولي أهمية كبيرة للعلاقات بين الاتحاد الأوروبي والصين ومستعدة للعمل مع ألمانيا لتعزيز هذه العلاقات.
مجمل القول إن زيارة رئيس الوزراء الصيني لي تشيانج إلى ألمانيا تعكس رغبة الصين في تعزيز تعاونها مع ألمانيا في المجالات المشتركة التي تحقق المنافع الاقتصادية المتبادلة، باعتبار أن الصين هي الشريك التجاري الأول لألمانيا، غير أن إعلان ألمانيا عن استراتيجيتها الجديدة للأمن القومي، وما تبنته من مبادئ فيما يتعلق بالموقف من الصين باعتبار تحركاتها تزيد من الضغوط على الاستقرار الإقليمي والأمن الدولي، يضع الموقف من الصين محل جدل ممتد داخل ألمانيا ما بين التقارب والتباعد بعد الخبرة السلبية للاعتماد على إمدادات الطاقة الروسية قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا، بما جعل الصين وفقًا للرؤية الألمانية شريكًا لا يمكن الاستغناء عنه ومنافسًا لا يمكن عزله.