جاء إعلان ألمانيا عن استراتيجية جديدة للأمن القومى فى 14 يوليو 2023، ليعكس الرغبة الألمانية فى مواجهة التهديدات المتنامية التي تواجه الدولة والمجتمع معًا، لا سيما بعد أن أدت الحرب الروسية الأوكرانية إلى تغيير فى إدراك النخبة الألمانية لأنماط تلك التهديدات، سواء فيما يتعلق بهشاشة الوضع الأمني فى أوروبا، خاصةً أمن الطاقة، والتحديات الاقتصادية والمجتمعية واستراتيجيات مواجهة تلك التهديدات من خلال تعزيز الإنفاق العسكرى، بعد الحرب الروسية الأوكرانية التي أدت إلى اندلاع سباق تسلح عالمي، وجعلت ألمانيا من أوائل الدول الأوروبية التى تقرر زيادة موازنتها العسكرية، لما يقرب من 100 مليار يورو.
قضايا متعددة
تضمنت الاستراتيجية العديد من القضايا التي طرحها المستشار الألمانى أولاف شولتس بصحبة أربعة من وزرائه فى مؤتمر صحفي وهم وزراء؛ الخارجية، والدفاع، والداخلية، والمالية، ويُنْظر لتلك الاستراتيجية كتوجهات رئيسية لائتلافه الحاكم المكون من ثلاثة أحزاب هي: الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الحزب الديمقراطي الحر، وحزب الخضر. لذلك يمكن الإشارة إلى أهم تلك القضايا فى العناصر التالية:
(*) زيادة الإنفاق العسكرى: تبنت الاستراتيجية تعزيز القدرات العسكرية للجيش الألماني، وذلك من خلال زيادة الإنفاق العسكري، لذلك أكدت الاستراتيجية على الالتزام بالنسبة التى قررها حلف الناتو وتقدر بـ2% من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق الدفاعي بحلول 2024، وذلك من خلال الاستفادة من أموال الصندوق الاستثنائي لدعم قدرات الجيش الألماني، الذي أقره البرلمان فى 2022 بقيمة تبلغ 100 مليار يورو لعشرة أعوام.
(*) التهديد الروسي للنظام الدولي: وصفت الاستراتيجية روسيا بأنها أكبر تهديد جدي للنظام الدولي وأوروبا، كما اعتبرت روسيا تهديدًا للديمقراطية في أوروبا يتطلب التصدى له. لذلك تعد هذه التوجهات تغيرًا فى التوجه الألماني إزاء روسيا، لا سيما أن الفترات السابقة في عهد أنجيلا ميركل المستشارة السابقة شهدت تقاربًا روسيًا ألمانيًا على المستوى الاقتصادى، لا سيما فى مجال إمداد ألمانيا بالطاقة عبر خطي نورد ستريم، بما جعل بعض الاتجاهات تعتبر كثافة العلاقات بين روسيا وأوروبا أحد العوامل المفسرة لاستدراج بوتين للحرب في أوكرانيا للحد من تأثير تلك العلاقات باعتبارها أحد مصادر تهديد التعاون الأمريكي الأوروبي، أو بما يجعل أوروبا بعيدة عن المظلة الأمريكية.
(*) الصين كشريك ومنافس: تبنت الاستراتيجية توجهًا رئيسيًا مفاده أن الصين تحاول بطرق مختلفة إعادة تشكيل النظام الدولي القائم على القواعد، وتدعي بشكل عدواني السيادة الإقليمية فى منطقة الإندوباسيفيك، وتتصرف باستمرار بشكل يتعارض مع المصالح والقيم الأوروبية.
لذلك وصفت الاستراتيجية تلك المعضلة بأنه برغم أهمية الصين لمواجهة التحديات العالمية، إلا أنها اعتبرتها تزيد ضغوطها على الاستقرار الإقليمي، ولا تحترم حقوق الإنسان. كما تبنت الاستراتيجية أيضًا ضرورة الحد من الاعتماد الألماني على الواردات من الصين من حيث الموارد والمواد الخام، سواء لإنتاج الأدوية أو الخلايا الشمسية؛ لذلك اعتبرت الاستراتيجية أن الصين شريك لا يمكن الانفصال عنه ومنافس لا يمكن عزله.
(*) تنويع مصادر الحصول على الطاقة: تشكل الطاقة أحد التحديات التى تواجه ألمانيا، باعتبارها دولة صناعية متقدمة، لا سيما أنها اعتمدت على الغاز الروسي قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية بشكل كبير، لذلك تبنت الاستراتيجية الدعوة لتنويع مصادر الطاقة، وعدم الاعتماد على مصدر وحيد، كما تبنت الاستراتيجية أيضًا الاستثمار في مجال الطاقة المتجددة.
(*) مواجهة التغير المناخي: تبنت الاستراتيجية توجهًا رئيسيًا يقوم على مركزية الاستدامة، التي ترتبط بمواجهة التغير المناخي الذي يمثل أحد التهديدات التي تواجه النظام البيئي. لذلك دعت إلى تعزيز الجهود العالمية الرامية لمواجهة أزمات النظام البيئي، وتعزيز الأمن الغذائي العالمي والوقاية من الأوبئة العالمية. وتجدر الإشارة إلى أنه تمت الدعوة إلى صياغة قانون حماية المناخ فى ألمانيا على نحو أكثر كفاءة حتى تتمكن ألمانيا بشكل أفضل من تحقيق الهدف الخاص بالوصول إلى الحياد المناخي بحلول 2045.
(*) التصدي للتهديدات السيبرانية: هدفت الاستراتيجية إلى إنشاء مركز فيدرالي لمواجهة الهجمات السيبرانية، التي قد تأتي فى إطار الحرب الروسية الأوكرانية، وأشارت الاستراتيجية إلى أن ذلك المركز سيعزز من التعاون مع الاتحاد الأوروبي والشركاء فى حلف الناتو، وهو ما سينعكس على تعزيز قدرات الدفاع السيبراني، لمواجهة الهجمات السيبرانية المحتملة على البنى التحتية الحيوية.
دلالات واضحة
يعكس إعلان مبادئ استراتيجية الأمن القومي الجديدة لألمانيا فى هذا التوقيت العديد من الدلالات لعل أهمها:
(&) تبني رؤية متكاملة للأمن القومي الشامل لألمانيا: الذي لا يقوم فقط على مواجهة التهديدات العسكرية والأمنية بل يمتد لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية، وذلك من خلال وضع استراتيجية متكاملة لمواجهة تلك التحديات. وتقوم الاستراتيجية على ثلاثة توجهات رئيسية هى: الدفاع والصمود والاستدامة، ويشمل مجال الدفاع تقوية الجيش والدفاع المدنى وحماية المواطنين. أما فيما يتعلق بالصمود فإنه يعنى وفق الاستراتيجية، الدفاع عن النظام الديمقراطي الحر ضد النفوذ الخارجي الذي وصفته بغير المشروع. أما الاستدامة فتتعلق بمكافحة التغير المناخي ومواجهة أزمة المناخ والنظام البيئي، وتعزيز الأمن الغذائي العالمي والوقاية من الأوبئة العالمية.
(&) تعزيز الدور القيادى لألمانيا فى أوروبا: تعكس مبادئ الاستراتيجية سعى ألمانيا إلى تعزيز دورها القيادي فى أوروبا، لا سيما أن الاقتصاد الألماني يعد الاقتصاد الأكبر فى أوروبا، وكذلك هي الأكبر من ناحية عدد السكان؛ لذلك تبنت الاستراتيجية تعزيز المنظومة الدفاعية لحلف الناتو من خلال الشراكة مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، بما يجعل من ألمانيا قاطرة اقتصادية وعسكرية للقارة الأوروبية، ويعزز من دورها القيادي داخل القارة لا سيما أنها طرحت مبادرة بناء درع صاروخى أوروبي لحماية القارة من التهديدات المتنامية.
(&) تعقّد الصراع الروسي الأوكراني: وفى ظل غياب تسوية حقيقية للصراع فى الأمد المنظور، اعتبر نقطة تحول لصياغة التهديدات الداخلية والخارجية التي تواجه ألمانيا بعد اندلاع الحرب فى أوكرانيا، وهو ما جعل الاستراتيجية تتبنى منظورًا واقعيًا في التعامل مع العلاقات الروسية الألمانية من التقارب إلى التباعد بعد اندلاع الحرب، التي جعلت من روسيا مهددًا رئيسيًا للنظام الدولي، الذى تسعى -وفق الاستراتيجية- إلى تقويض أسسه.
مجمل القول؛ إن إعلان ألمانيا عن استراتيجية الأمن القومي الجديدة تعكس التغير الجذري في مصادر التهديدات المحتملة للأمن القومي الألماني، وتغير بيئة تلك التهديدات، إذ بدت الحرب الروسية الأوكرانية نقطة التحول في إدراك تلك التهديدات، فضلًا عن "الدور العدائي" للصين، وتهديدات روسيا للنظام الدولي، واستراتيجيات المواجهة التي تنوعت بتعدد التهديدات سواء على المستوى الداخلي بتنويع مصادر إمدادات الطاقة وتعزيز التعاون بين الحكومة الفيدرالية والولايات أو على المستوى الخارجي بتعزيز الدور القيادي لألمانيا على المستوى الأوروبي.